في قديم الزمان ، كان هنالك رجل يحيا في قرية نائية ويعمل في حياكة السجاد على آلة كانت الوحيدة بالقرية ، وكان سكانها يدعونه بسيد القرية ، لكرمه على كل الأهالي، فقد كان يحيكَ لهم السجاد الجديد ،ويصلح القديم بدون أخذ ولا دينار واحد ، عكس أصحاب الأرزاق الوفيرة كتاجر القمح والتفاح اللذان لا يُخرجا حتى لفقراء القرية سوى الفُتات.
كان الرجل بعدَ أن ينتهي من حياكة كل السجاد يستأجر عربة لنقلها للمدينة التجارية لبيعه ، وبعد أن حالفه الحظ بتلك المدينة التي كانت تدعى مدينة الحظوظ ، وجنى نقوداً تكفيه للزواج ، تزوَّج ابنة جاره العجوز ، فأصبحت زوجته تساعده في الحياكة بعد أن علَّمَها ، وبعد سنة من زواجه رُزِقَ بمولود أسماه دامس.
لأنَّ سفره كان يُكَلِّفه نقوداً إضافية بدءاً من أجرة الذهاب والإياب مع اضطراره للمبيت في أغلب الأحيان حينما لا تُباعُ بضاعته بنفس اليوم ، قرَّرَ شراءَ بيتٍ في المدينة مبنياً من الحجارة.
لطالما حَلِم بامتلاك بيتٍ في المدينة ، لجمال بيوتها من الخارج عكس بيوت القرية المبنيَّة من سَعْف النخيل .
جاء يوم ذهابه إلى تلك المدينة لنقل بضاعته ، فطلب من زوجته السفر معه كي يأخذَ مشورتها في شكل البيت الأفضل ، فوضع دامس عند أبيها ، وعلى الرغم من نصيحته له بالسفر عند شروق الشمس ، لكنه أصرَّ على السفر بمنتصف الليل ، لكي ينهي أشغاله قبل الغروب ، و في طريق الذهاب ، اعترض مسيرهما قُطَّاع طُرُق ، للسَّطو على كل ما
يحملاه من نقود وبضائع ، ولأنَّ كل النقود التي جناها بحياته كانت بحوزته آنذاك ، حاول مقاومتهم فطعنوه على الفور وعندما لاذت زوجته بالفرار لحقوا بها وأوجزوا عليها .
في فجر اليوم التالي سافر تاجر التفاح لنقل بضاعته إلى المدينة التجارية ، فرأى جُثَّتيهما فدفنهما على الفور ، وعند عودته أعْلَمَ سكان القرية بوفاتهما.
….يتبع.
الجزء الثاني من رواية دامس
بعد سنة من وفاة والديّ دامس ، توفيَّ جده الذي كان يرعاه بكل حب ، فقرر سكان القرية رعايته بالتناوب كما لو أنه من صلبهم ، لأجل والده الذي كان يعتبرهم جميعاً من عائلته .
كان الأهالي يتناقلونه ، فيبات بكل كوخ بضعة أيام، لضيق حالهم المادي وعدم قدرة عائلة أن تتكفَّل به بمفردها ، إلى أن أصبحَ بعمر الاثني عشر سنة ، حينها أعادوه للمبيت بكوخ أبيه ، وبدأ كل واحد من أهالي القرية يحاول تعليمه مهنته ، لكنه كان وبكل مرة يهمُّ لأي عمل بنشاط وحيوية ، يتعرض لحادث يؤذيه ، فمرة عمل راعياً لبضعة أغنام ، فهجم ذئب عليه دوناً عن الأغنام ، ولو لا أنَّ صيادين كانوا بالجوار وسمعوا صراخه، فأنجدوه بآخر لحظة، لكانت تهشَّمَت أقدامه.
اضطر إلى ترك العمل وخلدَ إلى الراحة بضعة أشهر بعد أن أحضروا له حكيماً من المدينة ، فاعتنى به كل من اعتاد على رعايته ، فقد كانت تتناوب النساء اللواتي كُنَّ يرعَينَه منذ طفولته ، على الطهو له وتنظيف كوخه ، وبعد أن استعاد عافيته ، ذهبَ ليتعلم تصليح الأكواخ وأثناء صعوده ليقطع ورقة من أعلى شجرة النخيل ، سقطَ أرضاً فانكسَرَت كليتا يديه لأنه حاول أن يحمي وجهه بهما .
عاود أهالي القرية الاعتناء به مشفقين عليه وكل واحد يقول في قرارة نفسه:
-ياله من مسكين و قليل حظ منذ أن أتى إلى الحياة.
إلى أن تعافى ، فقام تاجر القمح بأخذه معه لحمل أكياس القمح مع بقية الرجال كي يقوى جسده بعد ذلك ويعمل بالعتالة عنده طيلة حياته ، لكن ولأول مرة أُصيب القمح بأكمله بالتسَوّس ، فثار الرجل عليه وكأنه هو من قام بإتلافه ،عندما قال له :
-لقد امتدَّ نحسكَ وحظَّك العاثر إلينا .
وبعد أن سمع سكان القرية بطرده لدامس ، قام تاجر التفاح بأخذه معه إلى حصاد التفاح فكان ولأول مرة في تاريخ حصاده مأكولٌ من الديدان بأكمله ، فصرخ بوجه دامس قائلاً:
-كان تاجر القمح محق ، يجب أن لا تعمل عند أحد من الآن فصاعداً ، فلم يمت والداكَ إلا لأنك أتيتَ إلى هذه الحياة ، فأنتَ سبب مقتلهما يا وجه الشؤم .
عاد لكوخه يبكي مكسور الخاطر ، وجلسَ يمعن النظر بآلة أبيه ، وتذكر أنه سمع ذات مرة أحد الرجال يتكلم عن براعة أبيه في حياكة السجاد لكنه لم يُعَلِّم أحداً تلك المهنة ، فقرر أن يرجو سائق العربة أن ينقله لمدينة الحظوظ ، لعله يجد أحد يجيد العمل على الآلة ، ويبيعها له مقابل أن يعلمه كيفية استخدامها ..
وافق سائق العربة على نقله دون أجرة بعد أن قال له :
-عندما كان والدكَ على قيد الحياة ، أقرضني نقوداً ولم يُطالبني بسدادها ، لذلك سأعتبر توصيلكَ للمدينة التجارية ، سداداً لدين أبيك .
حلَّقَ قلبه فرحاً طوال الطريق ، وأيقنَ أنَّ النحس قد زال عنه ، بفضل آلة أبيه ، لكنه لم يعلم ما كان يحيك له سائق العربة .
…..يتبع
الجزء الثالث من رواية دامس
ما إن وصلا لمدينة الحظوظ حتى صرخَ السائق :يا أهالي المدينة الكرام ، أودُّ بيعَ هذه الآلة التي ورثتها عن أبي ، ووضع هذا اليتيم للمبيت والعمل عند أحدكم .
ثم قصَّ لهم ما حدث بعد وفاة والد دامس إلى النحس الذي سببه لأهم تجار القرية ، فتقدَّم رجل وكانَ صاحب المقهى وقالَ على مسامع الناس :
-عُرِفْتُ أنا وأجدادي بالجود والكرم ، ولذلك سآخذ هذا الصبي للعمل والمبيت في المقهى لحراسته .
ثم تقدَّم رجل آخر وقال :
-لأني أعمل في مهنة الحياكة ، فآلتك هذه أصبحت قديمة ولا تُقَدَّر سوى بعشرين دينار.
وافق السائق على الفور وحلَّق فرحاً ، ولم يكن يعلم أنَّ الآلة نادرة و ثمنها يُقَدَّر بخمسمئة دينار، وعندما حاول دامس أن يقول أنَّ الآلة لوالده ، همس السائق بأذنه وهدَّدَه بأن يتهمه بالسرقة ، ويَزجَّ به في السجن ، فهو صبي صغير لن يصدقه أحد.
ذهب إلى العمل في المقهى ، ومنذ اليوم الأول استعبده مالكها ، فلم يسمح له بالراحة سوى بضع دقائق طوال اليوم من الصباح الباكر لمنتصف الليل ، ثم يقفل المقهى عليه كي ينام بضعة ساعات ، فقضى أيامه فيها كالمسجون.
وبعد مضي بضعة أيام ، أتى إلى المقهى أغنى زبائنها ؛ رجلٌ يعمل مستشاراً لحاكم المدينة ، وكالمعتاد طلب كأساً من الشاي ، فهرول صاحب المقهى لإعدادها وطلب من دامس أن يقوم بتقديمها كي يريه أنه يقوم برعاية الأيتام ، ولأنَّ دامس قد ناله من التعب في الأيام الفائتة ما أرهقه ، تعثَّر أثناء مسيره وأوقعَ الشاي على الأرض أمام المستشار ، فتلوَّثت أطراف عباءته ، مما جعل صاحب المقهى يهرول ويركل دامس ، لكن المستشار أمره بالتوقف على الفور .
جلس دامس في الخارج أمام المقهى ، يبكي بصمت وخوف لأنه سيتسوَّل في الشوارع والطرقات إلى أن يجمع نقوداً تعيده إلى القرية ، وأثناء ذلك كان الحاكم يسأل صاحب المقهى عن أهل دامس ، وبعد أن حكى ما قاله سائق العربة ، خرج المستشار وطلب من دامس أن يرافقه لقصر الحاكم ، وأثناء مسيرهما بالعربة ، سأله عن سبب مجيئه إلى المدينة ، فأخبره بكل ما حدث بدءاً من وفاة والدَيه انتهاءاً بسرقة آلة والده من قِبَل السائق ، وما إن انتهى من حديثه حتى وصلا إلى القصر .
عندما نزَلا من العربة ، كادت أن تتمزق جفونه من الدهشة لبراعة وجمال تصميم القصر وضخامته ، وما إن فُتِحَت أبوابه حتَّى حلَّق بناظريه يميناً ويساراً ، فرأى الثريَّات العملاقة التي تغطي سقف الممرات ، والأرض اللامعة التي حَسِبَها أنها مُغَطَّاة بالمرايا عندما رأى نفسه بها ، عدا عن المنحوتات المُصطَّفة على جانبي الممرات واللوحات الفنية المتنوعة التي تُزَيِّن الجدران .
عندما وصلا إلى جناح الحاكم ، طلب المستشار من الخادم أن يصطحبَ دامس إلى المطبخ و يطلب من الطبَّاخ أن يُحَضِّر له مالذ وطاب من الطعام ، ثم دخل ليقابل الحاكم ويقصَّ له ما حدث . بعد مضي وقت خرج المستشار وطلب من الخادم أن يصطحب دامس إلى السوق ويشتري له ملابس جديدة ثم يُدخله إلى الاستحمام ، ويحضره بعد ذلك إلى الديوان .
بعد أن استعدَّ دامس لمقابلة الحاكم قال له المستشار :
-ستدخل الآن إلى حاكم المدينة ، وعليك أن تتحدث معه بلباقة .
دخل وهو مطَأطِئ الرأس ، فقال له الحاكم:
-لقد سردَ لي المستشار كل ما حدث معك، أتعلم يا بني بأني قد عانيتُ في طفولتي مثلما عانيتَ أنت .
اتَّسَعَت حدقتا عينيه من الدهشة ، فأكمل :
-لقد توفي والدايَ وأنا في عمر صغير وتعرَّضتُ للظلم والقهر ، ولو لا أنَّ رجلاً ساعدني ودرَّسني واهتم بي لما أصبحتُ حاكماً ، لكن هذا الأمر سرٌّ بيني وبينك لا أحد يعرفه على وجه هذه الأرض سواك ، فاحتفظ به لنفسك ولا تفشيه لأحد ، وخذ هذه بضعة دنانير واذهب مع الخادم إلى السوق واشتري أكثر شيء يعجبك ، ثمَّ عد وأرني ما اشتريت .
ذهب دامس وهو سعيد لأنه يحمل سرَّ الحاكم أكثر من سعادته بالدنانير ، لكنه لم يكن يعلم أنَّ الكلام الذي قاله الحاكم كان من تأليفه لغاية في نفسه.
…..يتبع
الجزء الرابع دامس
عندما توغَّل مع الخادم داخل السوق ، أتى الحارس الشخصي للحاكم ، وقال للخادم :
-لقد احتاجوكَ في القصر فجأة ، وأرسَلَني الحاكم عوضاً عنك لاصطحاب دامس.
ثم أكمل مسيره مع دامس ، فإذا به توقف وهو ينظر إلى دُكَّان ممتلئ بشتى أنواع الكتب ، فقال للحارس :
-أريدُ أن أشتري بهذه الدنانير كتاباً يعلمني القراءة .
دُهِشَ مما سمع فابتسم ودخل معه ، وأخذ ما أراد ، وفي طريق العودة قال الحارس:
-سَمعتُ أنَّ الحاكم قد أسرَّكَ على أمر ، هلاَّ حكيته لي ؟!
-لا صحَّة لما سمعت يا سيدي ، فما أكثر الأشخاص الذين يثرثرون كلاماً لا صحَّة له.
-أنتَ مخطئ يا دامس ، فأنا سمعتُ هذا الكلام من الحاكم شخصياً .
-إذاً اسأله ياسيدي ، واسمع الجواب بنفسك.
لم يستطع أن يخفي ابتسامته بسبب إعجابه بِرَدِّ دامس ، وعندما وصلا لجناح الحاكم، طلب الحارس من دامس الانتظار خارجاً ، ثم دخل وأخبره بِرَدِّ دامس وبالكتاب الذي اشتراه ، فَدُهِشَ الحاكم مما سمع ، وقال له :
-استمرّ في الإلحاح عليه ، وضاعف المبلغ لمئة دينار ،فهذا أول صبي طلبت منه شراء ما يحلو له ، واشترى كتاب . ثم خرج وقال لدامس :
-الحاكم بانتظارك .
دخل دامس وعيناه تضحكان وهو ينظر إلى الكتاب فقال له الحاكم :
-أرني ما اشتريت .
أقبل دامس نحوه وبدون أن يرفع ناظريه انحنى أمامه وأعطاه الكتاب ، فأخذه الحاكم مبتسماً ابتسامةً خفيفة ، وتصفَّح بضع ورقات ثم قال :
-تريد أن تتعلم القراءة ؟!
ردَّ بلهفة وابتسامة :
-نعم سيدي ، أودُّ تعلم القراءة وبشدة .
-لكن يا بني ، لن ينفعكَ هذا الكتاب دون مُعَلِّم .
اكتسى الحزن وجهه بلحظة ، وتساقطت دمعته ، فقال له الحاكم على الفور :
-لا تبكي يا دامس ، فأنتَ ستحيا في هذا القصر إلى أن تُكمِلَ الثامنة عشر ، بغرفةٍ خاصةٍ بك بها كلُّ ما تحتاجه ، ولأنك اشتريتَ كتاب، سأعيِّنَ معلماً لك يعلمك القراءة والكتابة والحساب ، ولغة بلاد العجم .
حينها رفع دامس رأسه وقال للحاكم بدهشة عارمة :
-لكن ما المقابل لكل هذا يا سيدي ؟!
تنهَّدَ الحاكم ، ثم قال :
-بدون أي مقابل يا دامس ، فكما قلتُ لك سريّ ، بأني قد عشتُ نفس حياتك ، ولذلك سأساعدك.
مضَت ستة أشهر على دامس كانت من أروع أيام حياته ،لكن لم يكن يُدايقه إلا الحارس الشخصي للحاكم ، فلا يمضي يوم إلا ويسأله عن السر الذي حكاه له الحاكم ، وهو يردُّ بنفس الرد الأول ، إلى أن عَرَضَ عليه راتب مئة دينار شهرياً إلى أن يُتِمَّ الثامنة عشر ، مقابل بَوحه بالسر ، مع استمرار بقاءه في القصر ، وبدون أن يعرف الحاكم أنه قام بإفشاء سره ، لكنه لم يستطع أن يؤثر بدامس ولا بمقدار شعرة ، فاستمرَّ على قول :
-اسأل الحاكم إن كنتَ تريد الإجابة .
كان الحارس يذهب كل يوم ويُخبِر الحاكم بِرَدِّ دامس فيسعد كثيراً بما يسمع ، إلى أن قال في قرارة نفسه:
-قمت برعاية أيتام كُثُر أفشوا الأسرار التي ألَّفتها مع بضعة دنانير وببضعة أيام، إلا دامس .
حينها أيقنَ الحاكم أنَّ دامس هو من أفضل الفتيان الذين رعاهم بالقصر ،فأمرَ الحارس أن يتوقف عن سؤاله ، وقرَّر في ذاته أنه سَيُبقي دامس في القصر حتى بعدَ أن يُتِمَّ الثامنة عشر .
….يتبع سوف يتم تنزيل تكملة في منتدى القناة يجب متابع القناة