لن تعرفي قيمتي إلا إنْ خسرتيني
تزوجته وكان متوسط الحال والجمال ، رجلاً مثقفاً قارئاً نهماً للكتب غير شهادته الجامعية التي تملأ جزءاً لا بأس به من الحائط ،فقد قلتُ بداخلي بعد أن عرفتُ وضعه المادي :
-مع الوقت والصبر ، سيتحسَّنُ وضعه ، وسيشتري لي غرفة نوم جديدة عوضاً عن المُهْتَرِئَة ، وبعد ذلك سنستقلُّ عن أهله ونستأجر منزلاً نقوم بفرشه تدريجياً ، وعندما نشتري كل ما يلزمنا ، سنشتري منزلاً ونتخلص من الآجار .
قلت ذلك كوني لا أحب التبذير وهو كذلك الأمر ، فبأشهر خطبتنا التي لم تتجاوز الستة أشهر ، اشترى لي ستة بلوزات وستة بناطيل ، وبكل مرة كان يقول لي :
-أقوم بادخار نقود كي يكون شهر عسلنا لا يُنسى.
إلى أن أتى شهر البصل الذي فاحت رائحته منذ أول ليلة ، فبدل أن يشتري لي طعاماً جاهزاً كوني عروس ، طلب مني أن يذوق الطعام الذي تُعِدُّهُ يداي ، مع أني شرحتُ له أني لا أُجيدُ الطبخ لكنه أصرَّ لدرجة أنه اتصل بأمه التي ذهبتَ عند أخته المتزوجة مع أبيه وأخيه ، وطلب منها أن تُعَلّمني طريقة طبخ الفراخ بالفرن مع الخضار والأرز.
على الرغم من محاولات أمه وأخته أن تشرحا له أني عروس ويجب أن يشتري الطعام جاهزاً لا أن أقف وأطهو ، كي نمضي وقتنا نتسامر ونتجاذب أطراف الحديث ،وتعهَّدَت أمه بتعليمي الطبخ لاحقاً ، لكنه أصرَّ على رأيه.
قام بأخذي فسحة إلى حديقة الأزهر بالقاهرة على مدار الثلاثة أيام ، وكانت تبعد عن المنزل أربع ساعات ؛ كانت تلك الساعات من أصعب الساعات التي مرت بحياتي ، كون الطقس حار لدرجة إن وُضِعَت بيضة تحت الشمس ستُسْلَق دون أدنى انتظار ، غير المواصلات التي لم أستطع عدَّها ، لدرجة أني قلتُ بنفسي :
-الفسحة معكَ أشبه بالأشغال الشاقة .
لم ينسَ أن يجعلني أُعِدُ صندويشات “الجبنة واللانشون” إن شعرنا بالجوع كي لا نصرف نقوداً كثيرة على الطعام الجاهز .
بعد ثلاثة أيام عاد أهله ، فنزل إلى العمل ، وعلى الرغم من أني قلتُ له :
-أرجوك ابقَ أربعة أيام أخرى بعدها انزل إلى العمل ، وبذلك تكون قد بقيتَ معي أسبوعاً .
لكنه قال بابتسامة أخذت عرض وجهه:
-أرجو ذلك يا عزيزتي ، لكن كوني موظفاً لا أستطيع أن أطلب إضافة أيام أكثر فوق الأيام التي أخذتها.
ومن بعد تلك الأيام الثلاث بدأت رحلة معاناتي معه .
…..يتبع
لن تعرفي قيمتي إلا إنْ خسرتيني الجزء الثاني
مضى شهر واحد عشته في سلام نفسي ، إلى أن صرخت أمه قائلة :
-المصروف الذي تعطه لي لا يكفي بظل غلاء الأسعار ، غير أدوية الضغط والسكرلأبيك التي ارتفع سعرها أيضاً ، إنَّ أخيك الأصغر منك يدفع نقوداً أكثر في المنزل ، وبما أنك الآن متزوج ومسؤول عن امرأة فيجب أن تُزيد المصروف ثمن أكلها وشربها.
كانت آخر جملة كالصاعقة ضربَتْ رأسي ، وقرَّرْتُ أن أقوم بإقناعه بأن يزيد المصروف أكثر مما طلَبَتْ ، لكني فوجئتُ بأنه قال :
-لن أزيدَ لها جُنيهاً واحداً ، فأمي تحب النقود وما تأخذه يكفي.
لم أجد كلمات أستطيع نطقها ، كونه رجل بالغ مثقف بمنتصف الثلاثينيات وأنا ابنة العشرينيات ، فقلت في قرارة نفسي:
-من المؤكد أنَّ له وجهة نظر بالموضوع وربما كلامه صحيح .
إلى أن أقْحَمَتني أمه بالموضوع، قائلة:
-يجب أن تقنعي زوجك أن يزيد المصروف .
ثم بدأت بِعَدّ المواد الغذائية التي ارتفع سعرها ، ولم يَغِب عن ذهنها شيء ، واخْتَتَمَت حديثها قائلة:
-إنَّ زوجكِ لا يعي أنَّ أخيه يريد الزواج ولا يفيض من مرتَّبه شيء لادخاره .
فقلتُ لها :
-لا عليكِ أمي ، سأقوم بالحديث معه.
عاد مساءاً إلى المنزل وبعد أن أكل وارتاح ، قام بقراءة أبيات شعر ألَّفها لأجلي كما اعتاد أيام الخطوبة ، وقبل أن يضيع تركيزي بجمال كلماته قلت له الكلام الذي قالته أمه ، وأردَفْت :
-أمك معها كل الحق عزيزي ، فأخيكَ يجب أن يُنْقِصَ المصروف كي يُجَهّز وضعه استعداداً للزواج ، وبذلك سيقع الجزء الأكبر على عاتقك .
-حتى لو قام بإنقاص المبلغ ، فالمبلغ الذي تأخذه يكفي ، وإن لم يكن يكفي فلتُقلل من مرات طهي اللحوم والفراخ والسمك وتقلل من أنواع الفاكهة التي تحضرها .
نظرت له والدهشة تعلو وجهي ، وأنا أشعر بالضيق من كلامه ، فالتزمت الصمت دقائق ثم خرجت إلى الصالة وأشعلتُ التلفاز لعلَّ تأثير كلامه يزول ، لكن ما إن رأتني أمه حتى هرولت لي قائلة:
-ماذا قال لكِ؟!
قَصَصْتُ لها ما قال ، فتَبَدَّلَتْ ملامحها ثم قالت:
-له ما أراد
مضى أسبوعان لم تجلب إلى المنزل سوى مرة واحدة بالأسبوع فراخاً والأخرى سمك ، وجلبت مرة واحدة بالأسبوع نوعان من الفاكهة ، وبقية الأيام كان الطعام إما خضاراً مطهية بدون لحوم أو بيض وجبنة وفول وطعمية .
بدأ الضيق يعتصر قلبي ، فقد كنت أحيا حياة عند أهلي كالأميرات آكل ما تشتهي نفسي .
ما زاد من ضيقي أكثر أنه باليوم الذي لا تطهو أمه فيه اللحوم إما يأتي وقد تناول الطعام في الخارج أو يجلب معه التونة المعلبة واللانشون له فقط وإن سألته أمه لماذا لم تحضر للجميع قال :
-أنتم تناولتم الطعام أما أنا فلم أتناول .
مضت بضعة أشهر لم يتأثر بأن يفتح الثلاجة ويراها فارغة وأن يعرف أني آكل طعاماً كالذي يُعَدُّ للمرضى ولا يُحرِّك ساكناً فأصبَحْتُ أشعر بالاشمئزاز من مغازلاته التي لا تتوقف وأيقنت أنَّ حبه الذي يدَّعيه نابع من الكلمات فقط.
كانت نفسي عزيزة عليَّ لدرجة أنه لو وُضِعَ أمامي خبراً وبصل آكله بدون أن أفتح فمي بكلمة، وعندما طفح الكيل معي لجأتُ لأهلي الذين لم يحركوا ساكناً سوى أن قالوا سنتكلم معه ، لكن الصدمة أنَّ رده عليهم كان كرده عليَّ فقال والدي :
-لقد تحدَّثنا معه تارة أنا وتارة أمكِ وتارة أخيكِ لكنه متمسك برأيه لأبعد الحدود .
لم يمضِ يومان حتى أتت ببالي فكرة أشعلَتْ لهيب المشاكل بيننا.
…..يتبع
لن تعرفي قيمتي إلا إنْ خسرتيني: الجزء الثالث
-أريد أن أعمل
رمقني بدهشة :
-ولمَاذا العمل ؟!
-ماذا يعني لماذا ؟! ، ألا ترى وضع المنزل ووضع أمك و أخيك ، المنزل بتوتر وكأننا أعداء ، ولو لم يكن أبيك مريضاً لا طاقة له حتى للكلام لكان طردك من المنزل .
-يطرد مَن أيتها الحمقاء ؟! هذا منزلي أيضاً.
انهالت دموعي بغزارة عندما سمعتُ كلمة حمقاء ، فقام باحتضاني وأعتذر مني ، فتمالكتُ نفسي ثم قلت :
-دعنا نتحاور ؛ إنَّ النقود التي سأجنيها ، سأصرفها على المنزل ، وبهذا سيخف التوتر ، أو قم بزيادة المصروف أنت.
-أولاً المصروف لن أزيده ، وبما أنكِ تريدين الحوار ، فلك ما أردتِ ، تقولين أنك تريدين العمل ، وبشهادتك هذه أحسن عمل سأوافق عليه هو أن تكوني مُدَرّسة بحضانة ، وبالتالي لن يعود عليك ذلك العمل سوى ببضعة جنيهات .
اتسعت حدقتا عينيَّ من الدهشة:
-ومن قال أني لا أستطيع العمل سوى بحضانة ، أستطيع أن أتوظف بشركة أو أعمل مُحاسِبة بمصنع .
-ومن قال لكِ أنَّ الوظائف متاحة لمن هبَّ ودَب عزيزتي، الناس يشتهون فرصة عمل بلا جدوى ، ولنفترض أنك ِ وجدتِ فأنا لن أسمح لكِ بالعمل بين الرجال .
نظرت له بصدمة عارمة:
-من الصادم أن يخرج هذا الكلام من رجل مثقف مثلك .
-لا علاقة للثقافة بهذه الأمور ، فالحياة أصبحت كوادي الذئاب ، وأنتِ فتاة صغيرة جميلة جداً ولن أستطيع أن أشعر بالاطمئنان عليكِ إن ذهبتِ للعمل وسط الوحوش المفتر*سة.
شعرتُ أني أُصبْتُ بالخَرَس فجأة وعاد نفس الضيق الذي شعرت به لقلبي ، وأيقنتُ أنَّ لا فائدة من النقاش معه ، فخرجتُ إلى الصالة وأشعلتُ التلفاز ، وأثناء تفكيري بطريقة لإقناعه ، استبعدْتُ أهلي ، كوني أعلم أنهم لن يقفوا معي بأمر ربما يجلب الطلاق والعار لهم .
لم أجد الحل سوى بأمه التي رحَّبَت بالفكرة وانفرجت أساريرها ولم تفارقها البسمة لحين أيَّدَت فكرتي أمامه ، فتعالى صراخه قائلاً:
-تريدون أن تخربوا بيتي وتقومون بتحريض زوجتي ضدي.
شعرتُ بتلك اللحظة وكأني تزوَّجتُ رجلاً لم يدخل المدرسة قط ، ولم يُعاشر بشراً بحياته ، وكأنَّ حياته أمضاها بالغابة مع الحيوانات التي لا تعي الفهم ..
خرجت أمه وقالت لي:
-اعذريني يا ابنتي ، اعتقدنا أنَّ زواجه سوف يُغيّر العقل الصخري الذي بين أكتافه ، لكن توقعنا كان خاطئاً، سامحيني يا ابنتي .
التزمتُ الصمتَ وكم تمنيتُ أن أر*شُقَ الكلمات بوجهها ، وأنا أقولها في قرارة نفسي:
-أي تربية هذه التي ربيتيها لابنك ، وأي حليب أرضعتيه ؟!
هل تركتيه يسرح مع الماعز والأغنام ، واكتفيتِ برعاية ابنكِ الصغير؟!
انسحبتُ لغرفتي قبل أن أُخْطِئ بكلمة ، وأُسَبب لها جلطة قلبية بعد كلام ابنها.
عشتُ بأزمة نفسية أياماً وأصبحتُ أراه شي*طان، لا أحتمل منه كلمة ولا همسة وكلما أراد أن يقترب مني أنتفض مذعورة وكأنه يريد قت*لي ، إلى أن حصل ما ضاعف أزمتي النفسية أضعاف.
…..يتبع
لن تعرفي قيمتي إلا إنْ خسرتيني الجزء الرابع :
انسكبَ الماء على الطاولة بغرفتي دون قصدي ، ومع أني مسحتُ الماء لكني لم أنتبه أنه لا يزال هناك القليل ، فوضعتُ هاتفي المحمول فوق الماء بدون أن أنتبه وعدت إلى غرفتي بعد ساعة لأجد الهاتف لا يعمل ، شعرتُ بالحزن الشديد كوني على يقين بأنه لن يشتري لي واحداً بسهولة ، وكان توقعي صائباً ، فعندما عاد في المساء ورأى هاتفي قد احترق ، كاد أن يقفز فرحاً، وهو يتفَحَّصُهُ لدرجة أنه قال بصوت بالكاد استطَعْتُ سماعه :
-الآن لن يقوم أحد بتحريضها ضدي.
كاد قلبي أن يتوقف من شدة الألم ، فقلت له بنبرة حادة:
-أريد هاتفاً جديداً .
نظر لي بطرف عينه :
-لو كنتُ أملك نقوداً كنت زوَّدْتُ المصروف لأمي.
تعالى صراخي حينها وقمت بتكسير كل ما رأته عيناي وأنا أقول :
-طلقني ، طلقني أيها البخيل .
فقام بصفعي فوقعتُ أرضاً وتعالى بكائي وصراخي ، مما جعل أمه تقتحم الغرفة وتقف بيننا وهي تحاول أن تُهدئ الوضع .
فلم أجد من نفسي سوى أني هرولتُ ووضعت بضع قطع من ملابسي بحقيبة صغيرة وخرجتُ من الغرفة وأنا أقول :
-أرسل ورقة طلاقي لمنزل أهلي .
فصرخ قائلاً:
-لكِ ما أردتِ يا قليلة الأدب والتربية .
ما إن دخلتُ لمنزل أهلي حتى سمعتُ والدي يتحدث معه قائلاً:
-اهدأ يا بُنَيّ ، فبعد أن ترتاح سأُعيدها لك .
كانت أول مرة أرفع صوتي بوجه أبي وأنا أقول:
-ومن قال لك بأني سأعود لذلك البخيل المتخلف العقلي ؟!
كاد أن يضربني هو الآخر لو لا أن رأى أصابعاً مرسومة على خدّي وعيناي منتفختان من البكاء ، فقال لي بذعر:
-ماذا حدث ؟!
قَصَصْتُ له كل شيء ، فَشُلَّ لسانه عن الحركة لدقائق ثم قال:
-لو الأمر هكذا ، سأشتري واحداً لكِ وانتهى الأمر .
-بحقكَ أبي ، مشكلتي الكبرى هي بخله وليس الهاتف ، وما نفع أن تشتريه أنت وأمام الناس أنا على عِصْمَةِ رجل ؟!
-ابنتي سندعه بضعة أيام يفكر ، وإن أصرَّ ألا يُحْضِرَهُ لكِ ، سأشتريه أنا وننهي الخلاف.
مضت بضعة أيام وأنا ألع*ن حظي .
اتصل بأبي ففتح مكبر الصوت :
-ماذا حصل معك يا أبي ؟! ، هل استطعتَ إقناعها للرجوع أم أنها مُصِرَّة على الطلاق ؟!
-أيُّ طلاق يا بني ؟! ، زوجتكَ تريد هاتفاً جديداً عوضاً عن الذي احترق لا أكثر .
-من أينَ سأحضر النقود ، لا نقود معي .
-اشتري أرخصَ هاتفٍ في السوق ، لا يتعدَّى الألف والأربعمئة جنيه .
-لا أملك نصفهم ، فالداخل يُساوي المصروف .
أشعلَتْ تلك الجملة شرار الغضب داخلي ، فأخذتُ الهاتف من يدي أبي وقلت :
-وهل تصرف على المنزل أصلاً أيها البخيل .
-صدقيني إن قلتيها مرة ثالثة سأطلقك .
وقبل أن أقولها ، أمسك أبي الهاتف من يدي وأغلق الاتصال، ثم طلب مني الذهاب إلى غرفتي .
لم يتمَّ أي تواصل بيننا بضعة أيام أخرى ،زادَتْ سخطي على قدري ، لحين أتَتْ أمه لزيارتي ومعها عرضٌ وجملة من ابنها.
…..يتبع
لن تعرفي قيمتي إلا إنْ خسرتيني الجزء الخامس
بدأَتْ حديثها قائلة:
-أوصاني ابني أن أقول لكِ جملة وعرض، لكن قبل ذلك أريد أن أقول لكِ كلاماً مني وليس منه.
-ابنتي على الرغم من بخل ابني ، لكن الناس تشهد له بحسن أخلاقه ، فلم يُكَلِّم فتاة قط ، ولم يحتسي ولو لمرة واحدة رشفة من المشروبات الكحولية ، ولم يتعا*طى المخدرات بأي شكل منها ، بل حتى لا سيجارة له ، فلن تجدي رجلاً بهذه الأيام مثله.
ابتسمتُ لكلامها ثم قلت:
-أمي ، نحن نعلم جيداً أنه لو أراد أن يدخل بعلاقة مع أي فتاة عندما كان أعزباً أو حتى إن رغب أن يخونني بعد زواجنا ، فإنَّ تلك المرأة ستطلب منه هدايا كثيرة وخروجات للمطاعم وفسحات ، ولن تقبل إلا أن يشتري لها كلَّ ما لذَّ وطاب ، وللحفاظ على جيبه قرَّر أن يرتبط بعلاقة رسمية وجعلها لا تتعدى الستة أشهر ، كي يضمن تلك الفتاة زوجة له ، وبالنسبة للمخدرات والمشروبات الكحولية، فنعلم أيضاً أنها تكلف نقوداً كثيرة وكونه رجلاً مثقفاً جامعياً فيعي أنَّ أضرارها ستقوده إلى الإدمان وبالتالي سيدفع نقوداً أكثر.
صمتْتُ لحظات والضيق يعتصر قلبي من كلامها، ثم تابَعْت :
-أمي ، لو أردنا أن نَصِفَ رجلاً بأنه ذا أخلاق حسنة ولا يفعل كل الأمور التي ذكرتيها ، فيجب أن يكون كريماً ، يصرف بدون أن يفكر أين ستذهب نقوده ، لا أن يعارض زيادة المصروف لأمه ، وأنا على ثقة بأنه لو حصلت معجزة واستقلَّينا بمنزل أنا وهو، سيفعل نفس الشيء معي .
تنهَّدَت بحزن ثم قالت:
-ربما إن خلَّفتُما ولداً تتغير طباعه .
-من شبَّ على شيء شاب عليه ، أمي .
-ابنتي ، كأني فهمتُ من كلامكِ أنكِ مُصِرَّة على الطلاق .
-نعم مُصِرَّة
نظرت لي وجُفون عينيها كادت أن تتمزق ، ثمَّ تبدَّلَ حالها فجأة وقالت بغضب حاولت إلجامه :
-إذاً لا داعي أن أُخبِرَكِ بالعرض والجملة التي قالها .
وقبل أن أفتح فمي بكلمة ، انتَفَضَت من مكانها :
-أريد الذهاب ، ابتعدي عن طريقي .
هرولَت للباب، ومن دهشتي لم أقل لها كلمة واحدة ، وحمدت الله أنَّ لا أحد من أهلي كان بالمنزل ، كي لا يضغطوا عليَّ بكلامهم وآرائهم.
دخلتُ لغرفتي وأنا أفكر بكلام حماتي ،وخشيتُ أن يكون به شيء من الصواب ، ففعلاً زوجي ذا أخلاق عالية بشهادة الناس ، وحتى بشهادة أخيه وأمه وأبيه على الرغم من أنهم ليسوا على وفاق معه ، خاصة أخيه، فقد قال لي ذات مرة :
-لقد حاولتُ كثيراً مع زوجك أن أُعَلِّمه التدخين ، كي أُقرِّبه مني وأحاول جعله رفيقي بالخروجات التي أخرجها مع الفتيات ، كي يتعرَّف على واحدة تنسيه بخله وتجعله يصرف نقوده بكرم ، لكن دون جدوى .
تضاربَتْ الأفكار بداخلي ما بين كلام أمه وأخيه ، ورغبتي بالطلاق ، فقلتُ في قرارة نفسي:
-ربما إن تزوجتُ رجلاً كريماً ، يكون عاشقاً لتكوين علاقات مع نساء حتى بعد زواجه ، وأتعرض للخيانات المتكررة ، وأمضي أيامي أراقبه وألاحقه ، وربما يكون مُدْ*مناً على المشروبات الكحولية والمخدرات .
وقبل أن أُقَرِّر أن أنتزع فكرة الطلاق من عقلي ، فجأة تذَكَّرت شتيمته لي عندما قال حمقاء ، وصفعه لي ذلك الكف الذي شوَّهَ وجهي يومان ، فتغيَّرَ تفكيري بلحظة ثم قلت:
-وما الذي يمنعه من ضربي مرة أخرى ، بل مرات ؟! ، من المؤكد أني بمواقف لن أحتمل بخله وسأتشاجر معه وبالتالي سيض*ربني ربما ضر*باً يود*ي بحياتي أو يُسَبب عاهة مستديمة لي ، فمن سوَّلَت له نفسه بضرب زوجته مرة وعادت له ، سيضربها مراراً ، غير الشتائم التي ربما تصبح علنية أمام الناس ، وحينها ما نفع أني تزوجْتُ رجلاً مثقفاً جامعياً، وهو لا يستمع إلا لآراءه أصلاً ، وحتى إن ناقشني أيضاً سيُنَفِّذُ كلامه .
حينها شعرْتُ أنَّ قراري بالطلاق أفضل قرار آخذه بحياتي، وحتى لو قام أبي بِقَتْ*لي ، لن أُغَيّر رأيي.
عاد أبي وأخي وأمي مساءاً ، فرأيتُ الحماس والسعادة بدت واضحة على أبي ، عندما سألني ماذا جرى بين وبين حماتي ، وما إنْ أخبرته ما حصل وقلتُ قراري حتى تعالى صراخه ، وانقضَّ عليَّ لضر*بي ، وشعرتُ حينها أنه سيقت*لني ، لو لا وجود أخي الذي منعه ووقف أمامه كالجبل ، وهرولَت أمي تحتَضِنُني وتسحبني لغرفتي
كانت أول مرة بحياتي أرى أبي يُعاملني بتلك الطريقة ، فقد كان ملجأ الأمان والحنان حتى أكثر من أمي ، فتمَلَّكني الرعب أن تتحول حياتي مع عائلتي لهذا الشكل ، وأن يُعاملني أبي معاملة مُهينة كوني مُطَلَّقة ، ويقوم بتعليم أخي ويقلبه ضدِّي ، فتتحول حياتي لجحيمٍ لا يطاق ، وشعرتُ تدريجياً بأني سأنهي خلافي مع زوجي وسأعود له ، وبقيتُ بضعة أيام انتظر خبراً منه ، فقد توقَّعْتُ أن يأتي ليصالحني شخصياً ، ومعه هاتف محمول من أحدث الأنواع ، كونه كان يقول لي دوماً أنه يحبني لدرجة أني لو احتَجْتُ روحه سيعطيها لي .
غيرَ أني دُهِشْتُ من تبدِّل حال أبي في تلك الأيام ، فقد عادَتْ معاملته اللطيفة لي كما كانت قبل زواجي وكأنَّ شيئاً لم يكن . إلى أن عادت أمه مرة أخرى لتقول جملة ابنها وعَرْضَه ، الذي من غضبها لم ترغب بقوله.
…..يتبع
لن تعرفي قيمتي إلا إنْ خسرتيني الجزء الأخير
ما إن دخَلَتْ أمه حتى قالت لي :
-لا أريد إطالة الكلام ، فمع أني قلتُ لابني أنكِ تريدين الطلاق ، لكنه أصرَّ أن آتي لأُخبركِ بعرضه وجملته ، لعلكِ توافقي وتنتزعي فكرة الطلاق من رأسك .
-أولاً ، إنَّ عرضَ ابني لكِ هو كلما حفظتي جزءاً من القرآن ، سيعطيكِ مئة جنيه تدَّخرينها ، وكل جزء يعقبه مئة أخرى تدخرينها أيضاً ، إلى أن يكتمل المبلغ لألف ومئتا جنيه ، وحيث أنَّ هذا أرخص هاتف تستطيعين إستخدامه لوسائل التواصل الاجتماعي ، وبهذا يكون قد اكتسب ثواباً معكِ ، والجملة التي أراد قولها لكِ هي ، لن تعرفي قيمتي إلا إنْ خسرتيني.
نظرتُ لها كالمعتوهة ، واجتاحتني رغبة عارمة لأول مرة في حياتي ، بأن أشتم أحداً ، ثم نظرتُ أرضاً وحاولتُ أن استوعب ما قالت ، فالعرض كان بِكَفَّة وجملته كانت بِكَفَّة أخرى ، أيقنتُ منها أنه مجرد شخص جامعي قارئ للكتب ، لكن نسبة فهمه واستيعابه معدومة ، ومهما حاولتُ أن أشرح لن يفهم ، فرفعتُ ناظريَّ نحوها وقلتُ:
-قولي لابنك ، أني لستُ موافقة على عرضه ، ولن أُصَدِّقَ جملته إلا إن خسرته ، وهذا يعني أني مصممة على الطلاق .
انتفضت وأطل*قَت كلماتها بغضب :
-ابني معه كل الحق إذاً ، من المؤكد أنَّ هناكَ أحداً يُحَرِّضُكِ على طلب الطلاق منه .
ثم هرولَتْ إلى الباب ، وأغلقَتْه خلفتها بع*نف . حينها فقط أدركْتُ من أين حصل ابنها على فهمه .
خرجت أمي من الغرفة المجاورة ، فهرولْتُ وعانقتها وأنا أبكي :
-أرجوكِ أمي ساعديني ، أريد أن أتخلَّصَ من هذا الكائن ، حتى لو قت*لني أبي وأخي .
فَرَبَتْ على شعري ، وطمأنَتْني بأنَّ الأمور ستتحسَّن .
عاد أبي مساءاً ، وبدون أن يسألني ، اتجه نحو أمي وطلب منها اللحاق به وإخباره ماذا قالت حماتي لي ، وبعد بضع دقائق خرج وأقبل نحوي ، وكاد قلبي أن يتمزَّ*ق من هول ضرباته، فتوقَّعْتُ أن ينهال بالض*رب علي ، لكنه جلس بجانبي وعانقني ثم قال:
-ابنتي ، بعد الكلام الذي أرسله مع أمه ، أيقَنْتُ أنه رجل شحيح البخل، وحياتك القادمة معه ستكون سوداء قاتمة ، خاصة إن أنجَبتي منه ولداً فسيزداد بخله بحجة زيادة المصروف عليه ، وبما أنكِ مُصرَّة على الطلاق ولم يبتليكِ الله بأولاد منه ، فأنا موافق ، بشرط أنه بعد أربعة أشهر ونصف من تاريخ طلاقك ِ، سيتمُّ زفافكِ على ابن عمتكِ ، فقد طلَّق زوجته منذ بضعة أيام.
أومأتُ رأسي بالموافقة وعيناي اغرَوْرَقتا بالدموع فرحاً ، وأيقَنْتُ حينها سبب تبدّل حال أبي ، كونه وجد ابن أخته عريساً سريعاً يُسْكِتُ به أفواه الناس إن قالوا إنَّ ابنته مُطَلَّقة .
تم طلاقي بمدة قصيرة ، وانفرَجَت أساريري ، وأمضيتُ الأربعة شهور بسعادة مسجونة تَحَرَّرَت فجأة بعد أن حُكِمَ عليها بالإعدام .
إلى أن انتهت الأربعة أشهر، وأتى ابن عمتي برفقة المأذون وأمه وأبيه مباشرة لعقد القِران .
لا أعلم لماذا تذَكَّرْتُ حينها جملة طليقي ، وخشيتُ أن تتحقق كوني لم أجرؤ حتى أن أسأل عن سبب طلاقه لزوجته .
لم أرَهُ مرة بعد عقد القران ، فبعد أسبوع واحد تمَّ الزفاف ، شعرت بتلك الليلة براحة نفسية لا مثيل لها ، غير الأمان الذي لم أشعره إلا بطفولتي مع أبي.
وفي صباح اليوم التالي لزفافنا ، كانت المفاجأة ، فقد طلب مني أنْ أحزم أمتعتنا استعداداً للسفر إلى مصيفٍ بشرمِ الشيخِ أسبوعاً كاملاً ، كدْتُ أن أقفز فرحاً وأيقنتُ أنَّ الله قد عوَّضني به ، مضى أسبوعاً حلَّقنا به فرحاً وكأننا عُشَّاق لدرجة أني قلتُ له بدون أن أعي حبيبي ، فنظرَ لي بدهشة عارمة وقال:
-عيديها أرجوكِ ، فكم تمنَّيْتُ أن أسمعها منكِ .
ابتسمت بدهشة :
-هل أفهم من كلامك أنَّكَ كنت تحبني ؟!
-بل كنتُ أعشقكِ.
-يارجل !، ولماذا لم تتقدَّم لخطبتي إذاً؟!
-أيُّ خطوبة يا ابنة الخال، وأنتِ ما إن دخلتي إلى الجامعة حتى كاد رأسكِ لا يحملكِ وأنتِ ترددين دوماً ، لن أتزوَّج إلا من رجل مثقف جامعي ، وأنا بالكاد أخذتُ الشهادة الإعدادية واعمل حدَّاد .
لا أعلم لماذا في تلك اللحظة اجتاحتني رغبة عارمة في عناقه، فعانقته بلحظتها، ثم قلتُ:
-ولماذا طلَّقْتَ زوجتك ؟!
-بعدَ أنْ أصبحَ تعليمكِ غصَّة بقلبي ، قرَّرْتُ ألا أتزوج إلا من فتاة جامعية ، وألبستُها ذهباً كثيراً ، ما عدا خاتم ألماس هدية الخطوبة وإسوارة ألماس هدية الزواج ، لكنها كانت تطمع بالمزيد ، ولم تتوقَّف عن طلب الهدايا لها ولعائلتها ولم تتنازل عن الذهب كهدية ، وعندما أرفض وأشرح لها بكل مرة أن “تحويشةَ عمري” قد صرفُتها للزواج بها ، كانت تردُّ باحتقار وتقول، أنا مثقفة جامعية ولو تزوَّجْتُ مثقفاً لعيَّشني حياة الرفاهية وأحضَرَ لي كل ما أريد ، صدقني لن تعرف قيمتي إلا إنْ خسرتَني .
كانت آخر جملة كدعابة سمعتها ذات يوم ، فدخلْتُ في نوبة ضحك لدقائق ، وهو ينظر لي بذهول ، وبعد أن توقَّفْتُ عن الضحك ، قَصَصْتُ له كلَّ ما بَدَرَ من طليقي بدءاً من الفسوحات لحديقة الأزهر تحت مسمى شهر العسل ، انتهاءاً بعرضه وجملته ، كونَ والدي لم يخبره بالتفاصيل سوى أنه بخيل.
وبعد أن انتهيتُ من حديثي قلتُ له :
-الحمد لله الذي خلَّصَنا من المثقفين .
تعالت ضحكاتنا ، وأمضيتُ معه سنيناً بغاية السعادة والجمال، فقد كنا متفاهمين لأبعد الحدود ، لدرجة أنه ساعدني بالبحث عن عمل ، إلى أن توَظَّفْتُ محاسبة بشركة على مستوى رفيع، واستمَرَّيتُ بعملي حتى بعدَ أن أنجبتُ طفلي الأول .
# انتهت القصة