قصة رائعه ما خلقكم لينساكم ولِدْتُ في عائلة على الرغم من فقرها لكنها مستورة الحال، فأمي ربَّة منزل ، وأبي يعمل ليلاّ ونهاراً بلا كلل ، وبالكاد يجني قوت يومنا ،
ولأني كنت الابنة الوحيدة لهما ، تمنيت أن أُنجب عدة أطفال من زوج حنون كأبي ،وأحيا برضا وسعادة معه ، كما تحيا أمي ، إلى أن تحقق حلمي.
كنتُ أحيا مستورة الحال ، مستقرّة ومُطمَئّنة مع زوجي الذي لا أستطيع وصفه بالكلمات ، فقد كان رجلاً عطوفاً متفهماً كريماً منذ أول زواجنا ، وبعدَ أن رُزِقنا بطفلين توأم ، ازدادَت صفاته الحسنة ، فأصبحَ نِعْمَ الأب ، حنوناً ، مُحبّاً، يمنع اللقمة عن نفسه ليعيطها لولديه .
بعد أن أتمَّ طفلينا الخمس سنوات ، حملتُ مرة أخرى ، فأحاطني بالاهتمام والرعاية بالأشهر الثمانية ، وبكل شهر يمضي كان يضع يده على بطني ، ثم يقول ضاحكاً :
-ابنتي ، أريدُك شبه أمكِ بالجمال والحنان ،وأكثرمنها إن استطعتي.
جاء اليوم الذي كنا سنبدأ به العدّ التنازلي لاستقبالها ، أول يوم من شهري التاسع ، عاد بذلك اليوم من العمل مرهقاً ، فطلب مني أن أُوفّر له جواً هادئاً لأنَّ رأسه يؤلمه وأن لا أنسى إيقاظه بعد ساعتين .
جلستُ مع طِفْلَيَّ بصمت، وكأنَّ لا أحد بالمنزل ، وبعد مرور ساعتين دخلتُ إليه لكي أوقظه ، فإذا بجسده بارد مسترخٍ، وكأنه دمية نائمة ، بدأتُ بهزّه ومناداته ، حبيبي ، حبيبي ، وقلبي يرتعش خوفاً ، فقد كان يصحو من كلمة واحدة ، مما جعلني أضغطُ على قلبه بكلتا كفي ، ورفعتُ قدميه إلى الأعلى ، كما شاهدتُ في التلفاز ذات مرة ، وعندما لم يبدي أيَّ حراك ، تساقطت دموعي من الذعر ، وأنا أكلم نفسي :
-ماذا أفعل ؟! يا الله ساعدني .
لم يخطر ببالي سوى جيراننا ، فهرولت إليهم لعلهم يساعدوني في نقله إلى المستشفى ، أو حتى الاتصال بالاسعاف .
هرول جارنا وزوجته على الفور ، وبعد أن لامَس نبض يده وتأكد من أنفاسه وضربات قلبه ، قال لي :
-رحمه الله .
كاد قلبي أن يتوقف من الألم ، وشعرتُ بلحظتها ، كأنَّ المنزل انهدم فوق رؤوسنا ، ومت معه أنا وأطفالي ، توسّلتُ له أن يتصل بالاسعاف فقال:
-لن تأتي سيارة إسعاف إلى بيت في قلب العشوائيات ، فسوف تضيع بأزّقتها ، لكن سأطلب المساعدة وأنقله إلى المشفى .
شعرتُ ببصيص أمل ، لعل فيه أنفاساً تنتظر الإنعاش ، فتركت طِفلَيَّ عند أولاد جارتي ، وهرولتُ معهما إلى المشفى ، وقلبي يرجو الله أن يكون على قيد الحياة.
كانت المدة التي استغرقناها للوصول كفيلة بأن تُنهي حياة أي مريض ينازع الموت ، فما إن أدخلوه للإنعاش حتى خرجوا وأكدّوا وفاته .
شُلَّت قدماي عن الحركة ، فإذا بي ألطم وجهي وأصرخ :
-يا الله ، لم يكن لنا معيل سواه ، يا الله كيف سنحيا من بعده ، لِمَ أخذته ولم ترأف بحال أطفالي .
لم يكن لنا أقارب كي أخبرهم، فبعد وفاة والدايَ وأمه ، لم يتبقى سوى أبيه وأخته المتزوجة ، وبعد أن أخبرتهما أتَيا مع زوج أخته، وتمت إجراءات الدفن والعزاء وأنا مغيَّبة عن الوعي ، شعرتُ كأني في كابوس لا أستطيع الاستيقاظ منه ، ولم يمضي أسبوع حتى أتاني ألم المخاض ، فتمنَّيتُ لو أفارق الحياة لألتقيه في الحياة الأخرى ، فإذا بأولادي لاحوا أمام ناظريَّ ، فدعوت الله أن ألد بسلامة ، كي لا يبقى أولادي بلا أب وأم .
وضعتُ ابنتي ، ثم قبَّلْتها وغطَطْتُ في نوم عميق ، فإذا بزوجي يأتيني في المنام ويقول :
-باركَ الله بابنتنا ، كأنها نسخة منكِ ، ولا تقنطي من رحمة الله ، فما خلقكم لينساكم.
صحوت بعدها ، ثم صرختُ باسمه ، وتساقطت دموعي ، فكم كنت أنتظر لحظة قدوم ابنتي وهو بجانبي، لأرى السعادة بعينيه وأحظى بحب واهتمام مضاعَفَيْن ، مما جعلني لا أُلقي بالاً لذلك المنام إلا عندما تحقق.
…..يتبع
قصة ما خلقكم لينساكم جزء الثاني
ما إن استعدتُ قواي ، حتى عدتُ لمنزلي بعد أن تشكّرتُ أخت زوجي ، التي لم تُكَلّف نفسها عناءَ أن تطلب مني المبيت عندها أكثر، فكانت تراقب زوجها من أول دخوله المنزل للحظة خروجه خشية أن يتكلم معي أي كلمة .
شعرتُ برهبة في العودة إلى المنزل وزوجي ليس فيه ، وتمنيّتُ لو كان لدى والد زوجي منزلاً خاصاً به ، لكنه باع منزله وأعطى نقوده لزوج ابنته كي يصرفها على تجارته، وعاش معهما منذ ذلك الحين .
دخلتُ وفؤادي يبكي بصمت ، فقد تماسكتُ نفسي أمام طفلي ولأجل ابنتي ، فالحزن والدموع ربما يحرمانها من غذائها .
كانت أول ليلة بدونه ، أطول ليلة في حياتي ، جلستُ أفكر وأدعو الله من صميم قلبي ، بأن يرزقنا ولا نحتاج لمخلوق، مع أني كنت فاقدة الأمل فلا أجيد صنعة ولا أعرف عمل شيء ، وحمدت الله بنفس الوقت أنَّ خزين الطعام الذي أُعِدُّه كل سنة لا يزال ممتلئاً ، وأنَّ المرحوم كان قد وضع معي نقوداً ادّخرها للأزمات.
مضت أياماً لم يسأل عني أحد إن كنتُ أحتاج لشيء ، حتى أخت زوجي وأبيه لم يسألا البتّة كما اعتدنا عليهما ، فبدأ قلبي يرتعش خوفاً من أن اضطر للتسوّل واصطحب أطفالي معي، فبتُّ أسهر ليالي أرجو الله أن لا أحتاج أحداً ، وذات يوم طُرِقَ الباب ، فإذا برجلٍ هيئته كانت كرجال الأعمال الأثرياء ، وقال لي :
-أنا ابن جاركم الشيخ الكبير .
ثم استأذنني لحظة ، وذهب لسيارته وأنزَلَ جارنا ، وعندما أقبلا نحوي ، صفَعْتُ جبهتي بصدمة وأنا أقول :
– يا إلهي كيف نسيته؟! ، أعتذر أشدَّ الاعتذار ، فموت زوجي قد أعماني ، ونسيتُ أن أزور العم المسكين كما كنا نفعل أنا وزوجي .
فكادت جفون ابنه أن تتمزق من الدهشة ، وهو يقول:
-رحمه الله ، لكن على ماذا تعتذرين ؟! اعتنائكما بوالدي كان من أخلاقكما الحسنة ، وليس من واجبكما.
دعوتهما للدخول ، وبعد أن أحضرت كأس ماء لجارنا، بدأ ابنه بالحديث قائلاً:
كنت أشعر بالاطمئنان على أبي على مدار سنوات بعد وفاة أمي ومرضه ، فقد كنتُ أتكلم معه يومياً ،ويخبرني أنكما قد زرتماه واعتنيتما به لبعض الوقت ، فقد كان يرفض البتّة أن يترك المنزل ويعيش معي ومع زوجتي كونه قد سمع بأذنيه رفضها إقامته معنا ، وطلبَتْ مني أن أُدْخِلَهُ دار المسنين ، ومع أني رجوته كثيراً ألا يكترث لكلامها أو يسمح لي أن أشتري له منزلاً جانب منزلي، لكنه أصرَّ على رفضه وقوله: أريدُ أن أموت ببيتي وعلى فراشي ، لكن منذُ أن انقطعتما عنه ، كان يتصل بي يومياً ويخبرني أنه يشعر بالوحدة وأنه يطرق بابكم يومياً بلا مجيب .
لم أستطع أن أزوره بالأسبوع سوى يوماً واحداً بحكم عملي ، مما جعلني أخبر زوجتي منذ بضعة أيام أني سأحضر أبي للعيش معي ، وحاولتُ إقناعها بكافة الأساليب من ترغيب وترهيب كي لا تُلقي بالكلام المزعج على مسامعه كما فعلَتْ ، لكنها عندما خيّرتني بين طلاقها وأبي ، طلقتها وأتيتُ لاصطحابه معي ، وقلتُ في قرارة نفسي ، أن أطرق الباب عليكما للمرة الأخيرة لعلَّ أحدكما يفتح لي وأتشكّره على معروفكما ، لكن بما أنَّ زوجكِ توفي فمن واجبي أن أردَّ معروفكما مع أبي ، وأدعوكِ برفقة أولادك للعيش معنا كمدبرة منزل ، فالمدبرة التي كانت تقوم بالطبخ والتنظيف ذهبت مع طليقتي ، وبنفس الوقت تعتنين بأبي كما كنتِ تفعلي وتأخذي مرتّباً لتحضري احتياجات أولادكِ ، لكن إن كنتِ غير موافقة فاحترم رغبتكِ.
حلَّق قلبي بأرجاء صدري ، ووافقت ُبنفس اللحظة ودموع الفرح تغمر عيناي ، مما جعله يطلب مني أن أحزم أمتعتنا كي يأتي غداً بنفس الوقت لاصطحابنا.
أمضيتُ الليلة بفرح أنساني حزني وخوفي وألمي ، قمت بتجهيز كل شيء ، وفي الوقت المحدد ، ما إن طرق الباب حتى فتحته بلهفة ، وقام بمساعدتي بنقل الحقائب ، دخلتُ المنزل فشعرتُ براحة نفسية لا مثيل لها وكأنه منزلي الخاص ، ليتحقق ذلك بعد بضعة أشهر ، فقد طلب يدي للزواج بحضور أبيه ، وأخبرني أنه لا يُنجِبُ أطفالاً، وأكَّدَ لي بحال رفضي لن يتغير شيء عليَّ وعلى أطفالي .
وافقتُ على الفور ، كوني لم أرى سوء خلق عليه طوال تلك الأشهر، غير محبتّه ورعايته لأطفالي وإحضاره طلباتهم واحتياجاتهم كأنهم أطفاله ، لدرجة أني لم اضطر ولا بشهر واحد أن أصرف كل مرتّبي.
تمَّ الزواج وعشتُ معه أجمل سنين حياتي، برفاهية وغنى لم يخطر ببالي أني سأعيشها يوماً ما.
كَبِرَ أطفالي وهم ينادوه بأبي وبدوره كان نِعْمَ الأب والزوج .
نتهت القصة