قصة واقعية باقي اجزاء من قصة دامس كان هنالك رجل يحيا في قرية نائية ويعمل في حياكة السجاد

دامس مضَت ست سنوات على دامس، منع نفسه بها من أن يقول للحاكم أبي ، فقد شعر بعطفه عليه كما لو أنه ابنه الحقيقي . وبعد أن أتمَّ الثامنة عشر ألَّفَ كتاباً عن الصحة النفسية ، وهرول إلى الحاكم كي يهديه إياه قبل خروجه من القصر، وقال بدون أن يعي :

-أبي لقد ألَّفْتُ كتاباً .

كادت أن تتمزق جفون الحاكم مما سمع ، فنهض من عرشه ثم مشى بضع خطوات نحو دامس ، الذي كان قلبه يرتعش خوفاً من أن يصفعه لأنه تجرأ على عدم مناداته سيدي ، فقال:

-ألتمسُ عفوك يا سيدي ، وأقسمُ لكَ أني لم أقل لك أبي إلا لأني شعرتُ بعطفك كما لو أنك والدي حقاً.

لكن الحاكم احتَضَنه وتساقطت دموعه بصمت ، ثم مسح وجنتيه و قال :

-لا عليكَ يا بني ، وأرجو أن تناديني من الآن فصاعداً أبي ، فأنتَ ستبقى في القصر بجانبي طوال حياتك .

شعرَ بأنَّ قلبه يحلق فرحاً وهو يقول :

-لكنك قلتَ لي أني سأحيا في القصر إلى أن أُتِمَّ الثامنة عشر.

-كان ذلك قبل أن أتأكد أنَّك فتىً عكس كل الفتيان الذين رعيتهم ، فقد كنتُ أتمنى أن يحتفظَ أحدهم بسري ، لأعتبره ولدي وأطلب منه مناداتي أبي ، لأني لا أُنجِبُ أطفالاً على الرغم من أني تزوجتُ عدة مرات ، إلى أن أجمع الأطباء بأني عقيم، فقد كنتُ أُرسِلُ مستشاري كل شهر ليتفقَّدَ أحوال الرعية ويسمع شكواهم ومطالبهم، ويرى إنْ كان بينهم يتيماً

دون سن الثامنة عشر ولا معيل له ، فيأتي به إلى القصر، ثم أعطه بضع دنانير كي يشتري أكثر شيء يحلو له ، وعلى إثر ما اشتراه سيكون مستقبله فيما بعد ، فإن اشترى شيئاً مصنوعاً من خشب ، أُعَيِّنُ له أمهر النجّارين كي يعلمه المهنة ،

وإن اشترى شيئاً مصنوعاً من حديد ، يتعلم الحدادةَ وهكذا ، أما إن كانت اليتيمة فتاة يتم تعليمها القراءة والكتابة والحساب والطبخ والخياطة ، و تبقى في القصر حتى بعد أن تتم الثامنة عشر إلى أن أجد لها زوجاً صالحاً.

ثم طلب من دامس الجلوس ، وتركه لدقائق مذهولاً لا يقوى على النطق ، وجلس يقرأ أوَّل صفحات كتابه ، وفجأة لاحت له فكرة ..

….يتبع

الجزء السادس دامس

كتب دامس في أول صفحة بكتابه:

لو كان قدركَ أن تخسر أغلى الناس على قلبك ، وباتت حياتكَ سوداء قاتمة، وأصبحتَ ترى الناسَ وحوشٌ ضارية بسبب إيذائهم لك ، أيقن أنَّ ذلك من كرم الله عليك ، فقد وضع تلك المعاناة في طريقك ، ليوصلك إلى من يُعَوّضك براحة وفرحة تُنسيكَ أنك قد عانيت بحياتكَ يوماً ما ، لكن يجب أن لا تستسلم لحزنك بل أن تسعى وتعمل لكي تصل لراحتك وكلك أمل بأنَّ جروك سَتُشفى في يومٍ ما ، وأخيراً والأهمُّ أن يكون قلبك نقيَّاً كالأطفال ، وروحكَ طاهرة لم تتلوّث بالحقد على من آذاكَ.

لم يُصدّق الحاكم أنَّ تلك الكلمات خرجت من دامس فقال :

-بني أريدُ أن أسألك سؤالاً لطالما أهلكَ قلبي وأرهقَ روحي ، فلم أستطع حتى سؤاله لحاشيتي على الرغم من محبَّتهم لي ، لأني كنتُ أرى أنَّ البَوحَ بما يرهقني ضعفاً، وكيفَ أضعفُ وأنا رجل قبل كوني حاكم ؟

ردّ دامس بعينين حزينتين :

-قل أبي.

تنهّد ثم قال :

-بني ، لطالما دعوت الله ورجوته أن يرزقني ذكراً يُناديني أبي ، وبعدَ سنواتٍ يَئِسْتُ من الإجابة ، فأصبحَت دعواتي بأن يرزقني بذكر أو أنثى، لكنه لم يُجِب ، فبدأتُ بالسَّخطِ والشكوى من قَدَري ، لأني وعلى الرغم من كوني حاكم قادر على الظلم والأذيّة ، لكني لم أظلم أحداً من الرعيّة ، بل كنتُ مُحِبَّاً لهم كريماً عليهم ، وكنتُ أخاف الله بهم ،فكيفَ يكون جزاء إحساني مع الناس وحُسْنِ أخلاقي هو الحرمان من فلذة كبدي ؟!

إلى أن راود لذهني فجأة بأنْ أُرسِل مستشاري كل شهر عوضاً عن ستة أشهر للبحث عن أيتام ، وإحضار اليتيم إلى القصر عوضاً عن وضعه مع عائلة ذاتَ سمعةٍ طيبة والتكفل به ، وكلُّ ذلكَ كان لأنسى همي بهم وأنا أتأمل أن يحفظ أحدهم سريّ لأناديه بولدي ، وأسمع منه كلمة أبي .

تنهّد دامس ثم قال بابتسامة خفيفة :

-يا أبي ، ما حرمك الله من الأولاد إلا من كرمه عليكَ وعلى الآلاف من الأيتام ، فربما لو رزقك الله بولد ، لأصبح عاقّاً بك، وجعلَ حياتك بائسة كئيبة ، ونزع الحنان من فؤادك وأعمى عيناكَ عن رعاياك ،وربما أصبحتَ ظالماً لخذلانك من أغلى الناس ، فساءت أحوال رعيّتك ولم يكفّوا عن الدعاء عليك، فيزيد دعائهم قلبك ضيّقاً وهمَّاً وتأتيك الهموم والأحزان من كل حدبٍ وصوب ، فتكون بذلك قد نلتَ عقاباً في الدنيا قبل الآخرة .

صمَتَ لبرهة وتابع :

ثم يا أبي ، حتى لو قمتَ بوضع اليتيم عند عائلة تكفله هل أنتَ ضامن أنهم لن يعذبوه أو يستعبدوه ؟! ، فلا أحد يعلم مايدور في البيوت ، وما يجولُ في القلوب والعقول إلا الله ، فقد حرم الأطفال من أهاليهم ليعوّضهم برعايتك وعطفك وكرمك ، فربما لو لم يكونوا أيتام لعانوا من الجوع والفقر مع والدَيهم ، وربما لضيق أحوال الوالدَين ، عامَلوا أولادهم معاملةً سيئة ، مما سيجعل من هؤلاء الأطفال سلبيَّين وكئيبين بسبب أقرب الناس إليهم ، فيكبروا على تلك الحال؛ وعندما يتزوجوا، يُعاملوا أبناءهم بنفس معاملة والدَيهم ، فينشأ جيلٌ كئيب وهَلُمَّ جرَّاً .

ثم صمتَ لبرهة وتنهَّد وقال بابتسامة :

-وأخيراً يا أبي عليكَ أن تعلم أنَّ كل معاناتك تؤجَر عليها ، وأنَّ الله قد عوَّضكَ بي وعوَّضني بك ، فأرجو أن تكون قد وجدتَ الجواب بسؤالي.

ولأنَّ طوال حديث دامس ، كان الحاكم يُحملَق به بدهشة ، استغرق ردّه بضع دقائق :

-لقد فهمتُ الآن سبب حرماني يا ولدي ، فسبحان من سخرَّك لمداواة حزني ومنذ هذه اللحظة سأدعوك بطبيب الروح ، وسأُعيّنكَ بقرار رسمي، لتداوي أحزان حاشيتي والجنود والخدم والرعيَّة .

…. يتبع

الجزء السابع : دامس

لم يكتفِ الحاكم بإصدار قرارٍ بتعيين دامس ، بل قام بافتتاح جناحٍ خاصٍ به في القصر، حدَّدَ له ثلاثة أيام بدوام ثماني ساعات ، ليأتي إليه حاشيته والجنود والخدم ،ثم أمر بطباعة مئة ألف نسخة من كتابه، وطلب منه إهداء نسخة لكل من يزوره ، وأمرَ بشراء أكبر محل في ساحة المدينة وافتِتاحه باسم مركز رعاية الروح لأهل المدينة ، وتعليقِ منشور بجانبه

كُتِبَ به:

هنا طبيب الروح دامس ، الذي تمَّ تعيينه من الحاكم شخصياً، وهو تابع لحاشيته ، تأتون إليه وتبوحونَ بأسراركم أربعةَ أيام في الأسبوع ، وتأخذون الحلول بدون دفع ولا نصف دينار.

ثم خصص له راتباً شهرياً يُعادل راتب أعلى المسؤولين في حاشيته.

كانت سعادة دامس لا توصف ، وبدأ بمباشرة عمله على الفور . مضَت أشهراً استمع بها دامس لشتى أنواع الهموم .

كان يعتقد أنَّ الفقراء فقط هم من يعانوا من الأحزان ، لكنه عندما رأى أنَّ أغنى أغنياء المدينة لديهم من الأحزان ما يُعكّر حياتهم ، كوَّنَ أفكاراً جديدة عن مشاكل النفس البشرية وبعد سنة قامَ بتأليف كتابٍ آخر مفاده :

حتى لو كنتَ تعتقد أنَّك الوحيد الذي تعاني في هذه الحياة ، وأنَّ همومك لم يعش مثيلها أحدٌّ سواك ، أيقِنْ أنَّ هناك إنسانٌ في مكان ما ، يرجو الموت في أي لحظة من فرط أحزانه ، وهناك إنسان يتمنى أن يُصاب بفقدان الذاكرة كي ينسى ما عاشه ذات يوم ، وهناك إنسان إنْ عرف معاناتك سيحسدك عليها ويتمنى أن يحمل أحزانك عنك مقابل أن يتخلَّص من أحزانه .

فأمر الحاكم بطباعة مئة ألف نسخة منه ، وعاودَ دامس إهدائها لكل من يزوره.

في بداية الأمر شعرَ وزراء الحاكم وقادة الجيوش ، والمسؤولين المهمين بالغيرة والحقد على دامس للميزات التي أعطاها الحاكم له ولمحبَّته به ، فحاولوا بشتّى الوسائل الإيقاع به ، وتحريض الحاكم عليه بالحيَل والمكر والخداع ، لكنه لم يُصدق أحداً منهم وقام بتوبيخهم واحداً تلو الآخر بقوله :

-هذا بُني ، والابن لا يخون أبيه ولا يُلَطِّخ سمعته ، لكن إنْ عاودْتَ تلطيخ سمعته فهذا يعني أنَّ كلامك موَجَّهٌ لي شخصياً، وحينها ستنال عليه أشدَّ أنواع العقوبات .

بعد أن يَئِسوا من التخلِّص منه عن طريق الحاكم ، حاولوا التخلص منه عن طريقه تسميمه من قِبَلِ الخدم ، لكن لحب الخَدَم به كانوا يكذبون عليهم واحداً تلو الآخر ولا يضعون السم ، بل يقولون :

-وكأنَّ الله يحميه ، فكلما نضع السم له بالطعام لا يتناوله، أو عندما نضعه بالشراب تقع الكأس من يده.

كان عطفه ومحبته وكرمه على أضعف سكان المدينة ، كفيلاً بأن يحميه ويردَعَ عنه خبثَ ومكرَ أقوى رجالها .

….يتبع.

الجزء الثامن: دامس

بعد أن يَئِسَ المسؤولون في المدينة من التخلص منه بطريقة سريّة استعانوا بقادة الجيش ، بعد أن زرعوا الحقد برأس أقدمهم ،بأنه وبعد عشرين سنة قضاها في خدمة الحاكم ، لكنه يعطي دامس راتباً يعادل راتبه وهو لم يكمل السنتين.

رحَّب القائد برأيهم وأبدى استعداده التام لإرسال جندي من جنوده ليزور دامس في جناح مركز رعاية الروح في القصر ، بحجة أنه مُتعَبٌ نفسياً ، وما إن يُغلَق الباب عليهما ، حتى يوجِز الجندي عليه .

ذهب الجندي وكله تأهب لقتله ، بعد أن أخذ مبلغ مئة ألف دينار قبل إنهاء مهمته ، ونصف المبلغ بعد إنهاءها ، لكن ولأنَّه لم يأتي أحد لدامس من الجيش أو القادة أو المسؤولين المهمين ،كان مجُرَّد دخول ذلك الجندي إلى القصر لافتاً للنظر لدرجة أنَّ كل الخدم في القصر تأهَّبوا حالما رأوه ، وما إن دخل ليقابله حتى أوقَفَه أحدهم قائلاً :

-الحاكم أمرنا أن نفتش أي مسؤول أو جندي ونأخذ منه أي آلة حادة يحملها .

حاول الجندي إلجام غضبه كي لا يكشفه أحد ، فابتسم بإكراه وقال له :

-على الرحب والسعة .

أخذ الخادم منه سيفاً وسكين ثم طرق الباب على دامس وأعلمه بأنَّ هناك جندي يودّ مقابلته .

دخل الجندي ، واصطَفَّ جميع الخدم كالحرس على باب جناح دامس ، يسترقون السمع كونهم على علم بتخطيط المسؤولين المُسبق لقتله عن طريق السم .

جلس الجندي وهو يمثل الحزن ،فقال له دامس :

-ما هي مشكلتك ؟!

-مشكلتي يا طبيب الروح أني أخذتُ مئة ألف دينار من القائد، ولي عنده خمسون ألف ، ولن يعطني نقودي إلا إذا نفذّت المهمة التي طلبها مني .

– إذاً نفذّها وخذ نقودك .

فانقضَّ الجندي عليه قائلاً :

-وأنا هنا لقتلك.

وبلمح البصر أمسك بعنق دامس الذي كان مذهولاً لدرجة أنه لم يستطع الهروب ، وقبلَ أن يصرخ فتح الخدم الباب وبأيدي أضخمهم ساطور ، وانقضَّ على رأس الجندي بلمح البصر.

هرول بقية الخدم للاطمئنان على دامس الذي كان يمسك عنقه والدم محتقن في عروق وجهه، وهو يسعل وينظر لرأس الجندي الذي كان مفصولاً عن جسده.

ساعده الخدم على شرب الماء وما إنْ توقف عن السعال حتى انهالت دموعه من هول الذعر الذي عاشه .

هرول نصف الخدم لإحضار الحاكم شخصياً والنصف الآخر بقي لحماية دامس بعد أن أخروجه من جناحه .

….يتبع

الجزء التاسع: دامس

تلَقّى الحاكم الخبر كالفاجعة ، فهرول إلى دامس وقلبه يرتعش خوفاً ، وما إن رآه حتى احتَضَنه وانهالت دموعه وهو يقول :

-بني ، أحمد الله على سلامتك .

ثمَّ طلب من الخادم الذي قتل الجندي مرافقة دامس إلى جناحه وملازمته صباحاً ومساء ، وذهب ليرى رأس الجندي لعلّه يعرف قائده ، لكن ولعدد الجنود الكبير لم يستطع معرفة القائد ، فقام باستدعاء كل القادة لسؤالهم ، واصطفّوا جميعاً بجانب بعضهم البعض ، فدخل الحارس الشخصي للحاكم وألقى برأس الجندي أمام أقدامهم ، فصرخ الحاكم قائلاً :

-لن أُعيدَ سؤالي ، من قائده ؟!

فأجابَ قائده وهو يرتعش خوفاً :

-لا أعلم كيف ولماذا أتى لقتل دامس .

-مع أني حذَّرتك مرة واحدة كما حذّرتُ غيرك ، لكن ولغباءك أرسلت جنديك لقتله ، ومن سوء حظك أنه لم ينهي ما أمرته به ويلوذ بالفرار.

ثم صرخ :

-أيها السجَّانون ، خذوه وقيّدوه بالأغلال الموصدة في أقذر سجن ، لحين إعدام هذا الخائن في ساحة المدينة .

أمسكه السجّانان وسحباه أرضاً وهو يبكي ويتوسل للحاكم :

-لا علاقة لي صدقني ، أرجوك سامحني فالمقربين منك هم من حرَّضوني عليه .

ثم أمر بقية القادة بالانصراف ، وهو يفكر بآخر جملة قالها له.

ذهب للاطمئنان على حال دامس ، الذي ولهول تعبه النفسي غطَّ في نومٍ عميق ، وأثناء عودته إلى جناحه ، استوقفه خادم من الخدم الذين يُعدّون الطعام والشراب ، قائلاً:

-سيدي لقد أخفينا عنك أمراً ، لكن أرجو أن تعطني الأمان لأخبرك به .

رمقه قائلاً :

-اتبعني لجناحي .

جلس الحاكم على عرشه فقال الخادم وهو مُطأطىء رأسه:

-لأننا رأينا ما فعلته بالقائد ، أريد أن أخبرك بأنّه ليس الوحيد الذي ينوي أن يتخلّص منه ، فأهم رجال المدينة أمرونا بدسّ السم للطبيب دامس ، لكننا لم نفعل ولم نجرؤ إخبارك خشية من أنْ لا تُصَدّقنا.

كادَتْ أنْ تتمزّق جفونه من الصدمة وهو يقول :

-مَن أيضاً ؟

-المسؤول عن ديوان الخزانة ، والمسؤول عن ديوان الحاكم ، والمسؤول عن ديوان الأمور الإفرنكية، والمسؤول عنهم جميعاً .

كان كلام الخادم كالصاعقة التي ضربَتْ رأسه ،فأمره بالخروج ، وجلس يعيدُ ما سمع برأسه، فلم يستوعب أنّ الرجال الذين هم من المخلصين له وأشد المقربين منه ، أرادوا قتل من قال لهم أني أعتبره كابني ، وعلى الرغم من أنه حذرّهم سابقاً حتى بعدم الحديث بالسوء عنه.

….يتبع

الجزء العاشر دامس

لمْ يستطع الحاكم النوم جيداً لأسبوعٍ كامل، فقد كان يفكر بالعقوبة المناسبة التي سيُصدِرُها بحقِّ أقرب الرجال إليه، أما دامس فقد أمضى الأسبوع لا يخرج من جناحه الخاص وهو يقول أريد البقاء بمفردي ، فلا يُقابل أحداً سوى الحاكم الذي كان يزوره في كل يوم ليطمئن على حاله فيجده مرهقاً وكأنه يعاني من مرض عضوي ، وعندما يسأله هل أنت بخير ؟! ،كان يومِئُ رأسه وبابتسامة خفيفة يقول بخير ، وصوته بالكاد يُسمَع ، فيخرج الحاكم على الفور احتراماً لرغبته .

في كل يوم كان يعتصر فؤاده الألم للحال التي آل إليها ، إلى أن قال في اليوم السابع:

-طبيب الروح يحتاج الآن طبيباً ، ولهذا السبب لن أكتفي بإعدام القائد.

وفي اليوم الثامن أصدرَ بياناً كتب فيه :

في ظهر الغد سَيُعدَم القائد الذي أرسلَ جندياً لقتل الطبيب دامس في ساحة المدينة ، مع المسؤول عن ديوان الخزانة ، والمسؤول عن ديوان الحاكم ، والمسؤول عن ديوان الأمور الإفرنكية، والمسؤول عنهم جميعاً، لمحاولاتهم المتكررة قتل الطبيب دامس عدا عن تحريض قائد الجنود لقتله .

في فجر اليوم التالي تم تعليق المشانق ، وحضر الإعدام المئات من الأهالي منذ الصباح لرؤية هذا الحدث التاريخي الذي لم يحصل له مثيل .

لم ينم الحاكم إطلاقاً في تلك الليلة ، فلم يستوعب أنه في الغد سيفارق الحياة أعز الرجال على قلبه كونهم رافقوه طوال مسيرة حكمه لخمسٍ وعشرين سنة ، مما جعله ينسى تنبيه الخدم أنْ لا يُخبروا دامس لحين تعافيه النفسي ، فاعتقد أحدهم أنَّ إخبار دامس بقرار الحاكم سيجعله يتعافى على الفور بعد أن يذهب لحضور الإعدام ، وعندما أحضر الفطور بوقت متأخر لجناحه ، أخبره ببيان الحاكم .

وقف دامس مذهولاً و قلبه يؤلمه لشدة كراهيتهم على الرغم من عدم إيذائه لهم ، مما جعله لا يأخذ بالاً من كلمة إعدام إلا بعد دقائق ، فكادَت أن تتمزق جفونه وهو يقول:

-مهلاً مهلاً إعدام ، اليوم إعدامهم ؟!

-نعم سيدي، إعدامهم بعد نصف ساعة .

تسارعت ضربات قلبه فهرول خارج القصر وهو يصرخ :

-جهّزوا العربة .

سابَقت العربة الرياح للوصول إلى ساحة المدينة ، وفي تلك الأثناء تمَّ اقتيادهم داخل قفص بالعباءات البيضاء، مقيّدي الأيدي و الأرجل ، ليراهم الناس في حالتهم المزرية وهم يلاقون حتفهم .

كانوا جميعهم ناكسي الرؤوس، ودموعهم تنهال بصمت ، وقلوبهم ترتعش خوفاً ، يتمنوا لو يُعاد الزمن بهم إلى الوراء ليتراجعوا عما فعلوه ويكونوا كالإخوة لدامس ، وما إنْ صعدوا لمنصة الإعدام حتى انهاروا بكاءاً وهم يرجون الحاكم الذي كان يراقبهم عن كَثَب وهو محمول بالكرسي المكشوف على أكتاف الخدم ، فأومأَ بيده للجنود أن يضعوا الحبال على أعناقهم وما إن وضعوها بانتظار الإيماءة الثانية لسحب الكرسي حتى وصل دامس وصرخ قائلاً :

-أوقفوا الإعداااام ، أبي أرجوك أوقفهم .

كادت أن تتمزق جفون الحاكم من رؤيته ، عدا عن عيون الأهالي التي اتجهت نحوه ، مع المحكومين الذين كادَت أن تُقطَع أنفاسهم قبل تنفيذ الحكم .

…..يتبع

الجزء الحادي عشر:دامس

ما إنْ نزل دامس من العربة حتى هرول لمنصة الإعدام ، وأزاح الحبال عن أعناقهم واحداً تلو الآخر وسط ذهول الجميع ، فأمر الحاكم من يحمله بأخذه للمنصة .

عندما أنزلهم ركعوا جميعهم عند قدميه وهم يقولون :

-سامحنا يا طبيب الروح ، نرجوك أطلب من الحاكم العفو عنا.

حينها وصل الحاكم وقال بهدوء أذهل الجميع :

-لماذا أنزلتهم يا بني ، أتريدُ إعدامهم بطريقة أخرى؟!

حينها انهالت دموع دامس وقال :

-أيُّ إعدام يا أبي ، كيف تنهي حياتهم بلمح البصر؟ إنَّ العفوَ عند المقدرة .

فقال الحاكم وهو مُقَطّب الجبين:

-أيُّ عفوٍ يا بني ، كانوا يخططون جميعاً لقتلك وليس لمرة واحدة بل حاولوا مراراً و تكراراً وختموها بإرسال ذلك الجندي .

مسح دامس وجنتيه وقال :

-ولم يستطيعوا التخلّص مني . لو وضعْتَهُم بضعة أسابيع أو أشهربالسجن ، ثم جرَّدْتَهم من مناصبهم ونفيتَهُم ؛ على الأقل لأجل السنين التي خدموكَ بها . لا تدع غلطة قاموا بها ، تمحو سنوات من الإخلاص والمودة .

اتَّسَعَت حدقتا عينيه من الدهشة ، وصمت لثواني وهو ينظر لهم راكعين عند قدميه ، وعندما رأوه صامتاً اقتربوا من قدميه وقالوا:

-سامحنا يا سيدي ، لن نعيد ما اقترفناه مرة أخرى ، فلم نشعر بِهَول خطئنا إلا عندما أوشكنا على الموت.

نظر الحاكم لدامس وقال :

-سمعتَ يا بني ، هنالك أشخاص إن لم يُردَعوا بأقصى العقوبات لن يعرفوا حجم الذنب الذي ارتكبوه ، وأنت لا تزال صغيراً طيب القلب ، لا تعرف حجم الخبث في هذا العالم .

-إذاً بما أنهم قد عرفوا حجم ذنبهم ، اعفُ عنهم أرجوك .

حينها انهالت دموعهم وقبلوا قدميّ الحاكم وهم يرجون عفوه، فقال الحاكم للسجَّانين :

– خذوهم إلى السجن

ثمَّ التفتَ إلى الأهالي وقال بأعلى صوته:

-لقد عفيتُ عنهم من الإعدام ، لأجل أنَّ الطبيب دامس طلب ذلك ، لكني لن أُعيدهم إلى مناصبهم ، بل سأزجُّ بهم في السجن طيلة حياتهم .

فهتفَ الأهالي :

يحيا الطبيب دامس ، يحيا الحاكم .

فاحتَضَنَ دامس الحاكم ، وبكى من سعادته ، ثم عادا إلى القصر وأمضَيا اليوم بأكمله معاً يتحادثان بمواضيع مختلفة بعيداً عن خيانة رجاله والتآمر لقتله ، وفي نهاية اليوم قال دامس :

-أتسمح لي يا أبي بالذهاب غداً إلى السجن ، لكي أتحدّث معهم وأفهم نفسيَّتهم وسلوكهم العدواني ؟

فابتسم الحاكم قائلاً:

-لكَ ما أردْتَ يا بني .

وفي اليوم التالي ذهب إلى السجن وكلَّمهم بغرفةٍ منعزلة كلٌّ على حدىً قائلاً:

-تحدَّث معي بصفتي مُرشِد نفسي وليس دامس ، وأجبني ما الذي جعلك تُصمم على قتل شخص لم يُصبْكَ بأيّ أذىً.

فكان جواب كل واحد :

-الحقد الذي نجم عن الغيرة يا طبيب الروح قد أعمى بصري، فقد أعطاكَ الحاكم من الميزات الخاصة والمحبة ما لم يعطه لي وأنا الذي رافقته خمساً وعشرين سنة بكل إخلاص ومحبة وطاعة .

فكان رد دامس كفيلاً بجعلهم يَرَوْنَ أنفسهم سُذَّج حين قال :

– في هذه الحياة لكلٌّ منا مكانته ومميزاته التي تختلف عن غيره ، فإنْ كنتُ أنا أداوي جروح الروح فأنتَ مسؤولٌ لكَ مكانة مهمة ، وإن كان الحاكم يحبني كابنه وأنا لستُ ابنه ، فهو يحبك كأخيه وأنتَ لستَ أخيه ، ثمَّ هل سمعتَ عن رجل لديه أخ، ورزقه الله بطفل، فيكره أخاه أو يُفَضِّل ابنه عليه ؟!. لا أحد يأخذُ مكان أحد، ولا يخسر أحد مكانته طالما أنه لم يقترف ذنباً لا يُغتَفَر، أو يُسِئ التصرف.

شعر دامس براحة لا مثيل لها بعدما تحدَّثَ معهم ، فتذكّر تَنَمُرَّ أهم تجار القرية ونصب سائق العربة عليه ، فقال في قرارة نفسه :

-ربما مَرَرْتُ بهذه التجربة القاسية لأتذكر مَن جرح مشاعري في طفولتي ، ومن رعاني بدون مقابل عندما كنتُ ضعيفاً ، فمن المؤكد أنَّ من رَعوني يحتاجون الرعاية الآن ، والله قد ذكَّرني بهم بهذه الطريقة بعدَ أنْ نسيتهم، فلولا الذي مررتُ به لم أكن لأتذكَّر معروفَهُم.

حينها ذهب إلى الحاكم واستأذنه بالذهاب إلى قريته للاطمئنان على أهلها ، والسماحَ له بأنْ يأخذ معه ما لذَّ وطاب من الطعام والشراب والفاكهة، وكلُّ ذلك على نفقته الخاصة . سَعِدَ الحاكم لطيب أصله فقال له :

-خذ وقتك يا بُنَي في المكوث مع أهل قريتك ، لكن كلَّ ما كنت تنوي أخذه ، ستأخذه أضعافاً على نفقتي الخاصة ، فَهذا أقلُّ ما يمكنني أن أُقَدِّمه لمَنْ رَعَوا ابني عندما لم يكن له معيل.

…..يتبع

الجزء الثاني عشر دامس

ذهب دامس إلى القرية بعربة ولحقَتْه ثلاث عربات مُحَمَّلَة بما لذَّ وطاب مع رجال أرسلهم الحاكم لمساعدته ، وعندما نزل في ساحة القرية لاحظَ أنّ أشجارها ميتة وزرعها أصفر ، ثم اجتمع حوله الأطفال الذين كانت ملابسهم رثّة وأجسامهم متسخة ، فصرخ كل واحد منهم :

-اجتمعوا يا أهالي القرية ، فقد زارنا ضيفٌ غني.

أقبلَ من سمع النداء ، وجميعهم ينظرون في ذهول تام لدامس، فتهامسوا واحداً تلو الآخر:

-كأنني أعرفه ، كأنه دامس.

حينها انهالت دموع دامس من الفرح كونهم لم ينسوه وقال:

-نعم أصبتم أنا دامس .

هرول الرجال والنساء الذين كانوا يرعونه منذ أن كان رضيعاً واحتضنوه وقبّلوا جبينه قائلين :

-لو لم تكن أصيلاً ابن أصيل لما أتيتَ لزيارتنا.

طلب من الرجال توزيع الطعام والشراب بالتساوي على أهل القرية ، وجلسَ مع كبار القرية ، وبعد أن حكى لهم كل ما حصل معه منذ اليوم التي ترك به القرية ، سألهم عن سبب سوء حال القرية والتعب الذي بدا واضحاً حتى على صغارها فأجابوه :

-بعدَ أن تلف محصول القمح والتفاح، بدأت تتناقص المياه الجوفية بالتدريج ، وتأثَّرت كل أشغالنا.

فقال لهم بدهشة:

-لماذا لم تحفروا آباراً؟

-حاولنا كثيراً لكن دون جدوى ، فهذه الآبار موجودة منذ مئات السنين ، ولأنه لم يحفر أحد أيَّ بئر حديث ، لا علم لنا بذلك .

-لو أتيتم إلى حاكم المدينة لساعدكم.

-أتينا كثيراً لكن منعنا الحراس من الدخول إلى القصر.

-أينَ تاجر القمح والتفاح ؟! لو أتَيا بصفتهم تجار لكانا استطاعا مساعدة القرية

-منذ أن تلف محصول القمح والتفاح ، لم ينبت لهما محصول سليم على الرغم من دعواتهما وإقسامهما بأنهما سيتصدقان على الفقراء ، مما جعلهما ينتقلان في نهاية المطاف للعمل بائعَين متجولَين في المدينة، بعد أن أقلَّهما سائق العربة الذي أكل عليك المال ثمن آلة أبيك .

اتسعت حدقتا عينيه من الدهشة فقال :

-أين سائق العربة إذاً.

-توفيّ بعد بضعة أشهر بمرض أنهكه ولم يعرف الأطباء له دواء .

ثم ذهب إلى الرجال الذين رافقوه وقال لهم :

-بعد أن تنتهوا من توزيع الطعام والشراب ، اذهبوا جميعكم إلى الحاكم وأخبروه سلامي وقولوا له بأن دامس يرجوك أن ترسل إلى قريته رجالاً مختصين في حفر الآبار فقريته أوشكت على الموت عطشاً ، وعودوا إلى هنا مُحَمَّلين ببراميل من الماء النقي لحين الانتهاء من عمليات الحفر .

ثم ذهب دامس للنوم في كوخ أبيه فرأى في أحلامه أنَّه يدعو له بالرضا والسعادة ويبشره بأنَّ مكانته ستعلو في الأيام القادمة .

في صباح اليوم التالي أحضر الرجال براميلاً من الماء مع المختصين والمعدّات لحفر الآبار .واستمرَّ نقل براميل المياه بشكل يومي ووضعها في ساحة القرية لمدة شهر.

لم يفارقهم دامس طيلة الشهر وأمضى كل يوم في تعليم الأطفال القراءة والكتابة .

ثمَّ ودَّعهم بعد أن رأى المياه تتدفق مرأى العين ،وأخبرهم أنه سيرسل إليهم مساعدين لإنشاء مجلس علم لمحو الأمية للأطفال ، مع معلمين مختصين .

عاد دامس إلى المدينة ، فرأى المحلات مغلقة ، والطرقات خالية ،والدمار حلَّ ببعض أحيائها ، والذعر واضحٌ على وجوه بضعة رجال كانوا يركضون ،فانقبض قلبه خوفاً وهرول إلى الحاكم ، فرآه طريح الفراش.

بعد أن اطمأنَّ أنه يعاني مجرد إرهاق ، عرف السبب الأساسي لتعبه ووضع حال المدينة ، فقد أخبره الحاكم أنه في الجوار مدينة معادية لمدينتهم منذ قديم الأزل ، كان حاكمها يحاول منذ أن تولى منصبه ، احتلال مدينتهم تلبية لوصية أجداده ، ومع أنَّه قد قاومه على مر السنوات ، لكن بما أنه استطاع قصف المدينة بالمنجنيق في مساء الغد فهو قد استعان بنهاية المطاف بأقوى قائدي بلاد العجم ، لعدم امتلاكه هذا السلاح المتطور ، وراح ضحية ذلك الهجوم رجالاً ونساء وأطفال ، وهذا يعني أنهم سيحاصرون المدينة تمهيداً لاحتلالها .

فسأله عن سبب عدم ردّه الهجوم بما أنَّ المدينة تمتلك سلاح المنجنيق ، فأجاب بأنهم لو ردوا هجومهم لأعادوا القصف بطريقة وحشية ،فهم بذلك يعطونه فرصة للتنحي عن الحكم وتسليمهم السلطة دون مقاومة .

…..يتبع

الجزء الثالث عشر دامس

أمضى دامس الليل وهو يفكر بطريقة يساعد بها المدينة ويضمن بقاء أبيه حاكماً ، إلى أنْ لاحت له فكرة وعند بزوغ الشمس ، هرول إلى الحاكم قائلاً:

-أبي الغالي ، بعد تفكير طويل توصّلتُ إلى أننا يجب أن نجعل عدوَّ عدوِّنا ، صديقنا ، أي أننا يجب أن نتحالف مع حاكم بلاد العجم.

اتَّسَعَت حدقتا عينيه من الدهشة :

-التحالف مع حاكم بلاد العجم يعني أننا يجب أن نعطيه خيراتٍ كثيرة وغنائم ، وهذا يجعل ثروات مدينتنا تتضائل فيؤثر ذلك على اقتصاد البلاد ويُفقِر العباد .

تنهَّد دامس وابتسم قائلاً:

-ومن قال أننا سنعيطه خيرات مدينتنا ، بصفة مدينتنا أقوى من مدينة عدونا عسكرياً واقتصادياً ، سنتفق معه أن لا يُتعِبَ نفسه بشيء ، ونحن سنحتل مدينة عدوِّنا ونعطه نصف خيراتها ، مقابل أن يعْلِمَ حاكمها أنه تراجع عن دعمه لهم.

كادت أن تتمزق جفونه وهو يقول :

-لكن يا بني أنا نويت التنحّي في اليومَين القادمَين منعاً من إراقة الدماء ، كيف سُيطاوعني ضميري على إراقة دماء أبرياء مدينة عدوي .

ابتسم دامس قائلاً:

-ومن قال أننا سنحتلها بإراقة الدماء؟! دعنا نرى رد حاكم بلاد العجم في بادئ الأمر ثم نتكلم لاحقاً.

فرد الحاكم :

– في هذه الحالة يجب أن يذهب أقدم قائد للجنود مع المسؤول عن ديوان الأمور الإفرنكية لرؤية حاكم بلاد العجم ، وبعد أن يتم التحالف يجب أن أجمعهم مع المسؤول عن ديوان الحاكم وديوان الخزانة و المسؤول عنهم وأترأّسهم للتشاورعن كيفية تقسيم الغنائم ودراسة ما نحتاجه، كي نعطي بلاد العجم ما لا نحتاجه ، لكن وكما تعلم أنهم جميعهم في السجن ، ولن أستطع أن أضع رجالاً بِكُفئِهِم لهذا الوضع الطارئ .

ابتسم دامس قائلاً :

-إذاً فليخرجوا جميعهم من السجن ، ولتسمح لي بمرافقة القائد مع المسؤول عن الأمور الإفرنكية لمقابلة حاكم بلاد العجم بصفتي المترجم .

اغرورقت عينا الحاكم بالدموع وقال:

-هل يعني أنك تسامحهم ، ولن يزعجك إن أعدتهم لمناصبهم؟!

-بالطبع لا ، فأنا سامحتهم ونسيت ما حدث .

فأمر الحاكم بإطلاق سراحهم على الفور وإعادتهم لمناصبهم ، ثم أخبرهم بما قال دامس حرفياً ، فَدُهِشوا لنباهته ، وأيدوه بفكرته.

عند حلول الظهيرة جهَّزوا العربة التي ستقلّهم لبلاد العجم ، وأخذوا معهم صندوقاً مليئاً بالذهب. ما إن تحدَّث دامس مع حارس القصر بلغتهم حتى حلَّق للحاكم قائلاً:

-سيدي آندرو، المسؤول عن الأمور الإفرنكية وأقدم قائد للجنود في المدينة التجارية ” موراشد ” الملقبة بمدينة الحظوظ يودون مقابلتك ، ومعهم شاب كأنه أعجميّ.

فأمَرَه بإدخالهم للاستماع إلى ما يقولون .

دخلوا وانحنوا جميعهم أمامه ، وبعد أن فُتِحَ صندوق الذهب قال دامس باللغة الأعجمية:

-سيدي آندرو ، لكَ من حاكم مدينة موراشد كل الاحترام ، وهو يهديك هذا الذهب الذي لا يُعادل شيئاً من قدرك ومكانتك، وله عندك رجاء .

اعتدَل الحاكم آندرو في جلوسه وقال له :

-قل ما عندك .

-يا سيدي ، أوّل البارحة قد أعطيتَ مدينة جومنداس قيمة عندما ساعدتهم بقصف مدينة موراشد ،كونها كانت تحاول احتلال موراشد منذ عقود دون جدوى ، ونحن نرجو أن توقف دعمك لهم ، وتُفسِحَ المجال لنا لاحتلالها وضمها لنا ، ومقاسمتك نصف خيراتها بدون أن تدفع ولا حتى فضيَّةٍ واحدة .

ابتسم الحاكم آندرو قائلاً :

-هذا يعني أنكم لن تحتاجوا المنجنيق المتطور لقصفهم.

ردَّ دامس بابتسامة :

-نحن نملك منجنيقاً حتى لو أنه لا يعادل منجنيق بلادكم لكنه يفي بالغرض.

ضحك آندرو وقال :

-لو لا أنَّ دستور بلادنا يمنع احتلال المدن العربية ، لاحتللت موراشد وجومنداس ، لكن لسوء حظنا أنه لا يسمح لنا سوى بمقاسمة الخيرات لكن بما أنكم ستقتلون بعضكم فهذا يكفيني.

صمتَ الحاكم آندرو للحظات ، حينها خشي دامس أن يخبره أنه سيحتلها بدون إراقة الدماء ، مما يجعله يتراجع عن دعمهم ، فاكتفى بالصمت .

ثم تابع آندو قائلاً:

-بما أن موراشد ستقوم بكل شيء دون تمويل وتعطنا نصف الخيرات عدا عن هذه الهدية اللاّبأس بها ، فنحن موافقون ، لأننا كنا سنأخذ نصف خيرات مدينة موراشد مقابل تمويل مدينة جومنداس ، وبدون أيّ هدية .

حلَّق فؤاد دامس فرحاً وارتسمت البسمة على وجهه حينها عرف المسؤول والقائد أنَّ الاتفاق قد تم ، وقبل أن يستأذنه دامس بالانصراف قال له الحاكم آندرو :

-من أي مدينة أنتَ من بلاد العجم .

-أنا عربيّ يا سيدي

حينها اتسعت حدقتا عينيه من الدهشة، كونَ العرب الذين يتقنون لغة بلاد العجم نادرين ،عكس أغلب العجم الذين يتقنون اللغة العربية بطلاقة .

….يتبع

الجزء الرابع عشردامس

ما إنْ عادوا إلى المدينة ، حتى وجدوا بقية المسؤولين بانتظارهم مع الحاكم لسماع رد آندرو ، وبعد أن أبلغهم دامس قال الحاكم :

-سيستغرق يومان لإبلاغ حاكم جومنداس بتوقّف دعمه له ، لكنك لم تخبرني كيف سنحتل المدينة دون إراقة الدماء ؟!

-أبي ، علينا توجيه منجنيق ناحية قصر حاكم جومنداس ، ونرشقه بالحجارة الصغيرة المغطاة بورق نكتب عليه:

بعد أن توقف الحاكم آندرو عن دعمك ، معكَ يومٌ واحد للخروج من القصر والسفر لأبعد الحدود مع كل ما تملك من ذهب ونقود ، بعد أن تنشر بياناً تقرُّ فيه بتسليم السلطة لحاكم مدينة موراشد ، وفي حال عدم تنفيذك ذلك فأنت تعرف حقَّ المعرفة ما الذي يمكنه فعله بمدينتك ، لكن إنْ حاولت المماطلة ؛ في فجر اليوم المحدد لخروجك سيتم قصف قصرك بالقذائف الحارقة ، وبأقل من ساعة ستُشوى أنتَ وجنودك .

ساد الصمت للحظات والجميع ينظر لدامس بذهول ؛ فقطع قائد الجنود صمتهم قائلاً:

-سأقوم بتوجيه المنجنيق نحوَ قصره من الآن وسأكون جاهزاً للقصف بعد يومان

فقال المسؤول عن ديوان الأمور الإفرنكية :

-يجب أن نضع خطة بديلة بحال أنه حاول المكر والخداع.

فردَّ دامس :

-لا يوجد أمامه أي خيار ، إما الموت وإما التنحي مع كل نقوده وذهبه ، ونحن لن نعطيه مجالاً حتى أن يفكر بشيء حيث أننا سنعلمه بما سنفعل بعد أن يُصدَم من الحاكم آندرو على الفور، ثم نقف نراقب خروجه فوق التلة ، أعلى قصره.

فقال الحاكم لقائد الجنود:

-إذاً جهز المنجنيق من الآن.

وبعد يومان عند منتصف الليل ، عرفَ حاكم جومنداس بقرار حاكم بلاد العجم ، فلم يستطع النوم وجنوده خشية أن تكون موراشد لها يدٌّ بالأمر ، فتم رشق قصره بالحجارة في فجر اليوم التالي ، فهرول جنوده إليه ، وأطلعوه على بيان حاكم موراشد وقالوا له بذعر :

-سيدي دعنا ننجو بأرواحنا ونرافقك لأبعد الحدود ، فلا أمل من مقاومتهم طالما أنَّ الحاكم آندرو قد أعلن انسحابه .

بقي حاكم جومنداس دون نوم للظهيرة ،وهو يفكر مع رجاله بحل سريع ينتشله من هذه الورطة ، لكن عندما أغلقوا جميع الأبواب في وجهه ، أمرهم بإصدار بيان بتنحّيه وتولية السلطة لحاكم موراشد ، ثم أمر جميع الجنود بانتظاره خارج القصر وأقفل الأبواب لينام بضعة ساعات خشية أن يسرقوه أثناء نومه ، ثم استيقظ ليجمع ثروته بنفسه ، وعند الفجر أنهى جمع ثروته وأمر جنوده بمرافقته للاحتماء بأبعد مدينة يتوقف عندها ، لكنه رأى أنَّ بانتظاره بضعة جنود فقط ولم يكترث للبقية .

لكنْ بقية الجنود اعتبروا طرده لهم من القصر عند نومه ، تخويناً لهم ، ورأوا أنَّ مرافقته تساوي البقاء ، مما جعل أغلبهم يرفضون الرحيل معه ويفضلون ملاقاة حتفهم بمدينتهم . كان الحاكم مع رجاله ودامس يراقبون خروجهم ، فقال الحاكم لدامس :

-أرأيتَ يا بني إلى أين أوصله جشعه ، لو لم يستمر بالطمع بما ليس له لكان الآن لا يزال في قصره .

كانت عملية الاحتلال تلك ، الوحيدة في التاريخ التي حدثت بدون إراقة قطرة دماء . وفي الصباح دخلوا مدينة جومنداس وهم ممتطين الأحصنة رافعي الرؤوس ، وخلفهم جيشٌ كامل والناس يرتعشون خوفاً من المصير الذي سيلاقيهم .

وقف الحاكم مع المسؤولين ودامس في ساحة المدينة ، فقال الحاكم في أعلى صوته:

-لقد عيَّنتُ ابني دامس نائباً لي في مدينة موراشد ، وهو الآن سيقطن في قصر حاكم جومنداس بصفته حاكمكم .

كان ذلك كالصاعقة ضربت رؤوس أهالي جومنداس ، وكالسعادة التي أنعشت قلوب مسؤوليها وجنودها ، ولأن كلام الحاكم كان مفاجأة لهم ، هنئوا دامس بنفس اللحظة ودعوا له بالتوفيق من صميم قلوبهم ، ثم عاد الحاكم مع نصف جنوده وترك النصف الآخر لحماية دامس خشية من غدر جنود جومنداس .

دخل دامس إلى القصر فوجد الجنود ناكسي رؤؤسهم ، ماددي الأيدي بالأسلحة لتسليمها ، فقال دامس بأعلى صوته :

-يا جنود جومنداس ، أنا الحاكم الجديد دامس ، إنَّ بقاءكم في مدينتكم يعني أنكم أوفياء لها، وهذا يجعلني أُبقيكم جنوداً كما كنتم ولن يتغير عليكم شيء ، باستثناء الخيرات التي ستهطل عليكم في الأيام المقبلة.

هتف جميع الجنود مراراً :

-يحيا الحاكم دامس ، يحيا يحيا يحيا .

بأثناء ذلك دخل دامس مع جنوده للقصر رافع الرأس عريض المنكبين ،وقلبه يحلق فرحاً ، وهو يقول في قرارة نفسه ،

-لقد فاجأني أبي ، هل هذا حلم ؟!

ثم جلس على عرش الحاكم وقال لجنوده :

-بعد أن قام المسؤولون بحساب ما تحتاجه مدينة موراشد عيِّنوا رجالاً لإحصاء عدد آلات صناعة الخشب والزجاج والحديد والنسيج وأرسِلوها لحاكم بلاد العجم ، ثم أرسلوا من مدينة موراشد إلى جومنداس آلات للناس التي تم أخذ آلاتهم منهم ،كون موراشد لديها فائض منها .

…يتبع

الجزء الخامس عشر دامس:

شعر أهالي مدينة جومنداس بدهشة عارمة ، بعد أن قام رجال مدينة موراشد بتوزيع آلات أحدث عوضاً عن التي سحبوها ، قائلين :

-هذه الآلات ملككم الخاص عوضاً عن سابقتها

لقد توقّعوا بالأجمع أن يتم اقتياد رجالهم كأسرى ونساءهم كجواري ، وأطفالهم كعبيد ، انتقاماً لضحايا موراشد ، لكن تصرف حاكمهم الجديد جعلهم يشعرون بالاطمئنان فعادت المدينة لحياتها السابقة وكأنَّ شيئاً لم يكن .

بعد أن وصلت الآلات لحاكم بلاد العجم قال في قرارة نفسه:

-لم أتوقع أن تكون غنائم بلادي هذه الآلات التي لطالما حلمتُ اقتنائها ، لتوفير استيراد الزجاج والخشب والحديد والنسيج من البلاد العربية، لكن ما فائدتها إن لم يكن أحدٌ من بلادي يجيد العمل عليها ، أنا أريد أن يجيد شعبي هذه الأعمال ، لكن كيف ؟! وتركيزُ أجدادي كان على صناعة المعدات الحربية ، وتجاهل هذه الصناعات المهمة.

وبعد تفكير طويل قال لرجاله:

-أعدُّوا العربة للذهاب إلى قصر الحاكم الجديد لجومنداس.

طوال طريق الحاكم آندور ، كان يتخيل تارة حجم الخراب الذي سيلاقيه ، وتارة يخمِّن المقابل الذي سيطلبه حاكم جومنداس لقاء تنفيذ طلبه له .

وعندما وصل ذُهِل لشكل المدينة الذي لم يتغير وكأنها لم تُحتَلَّ البتَّة ، فأمر جنوده بالإسراع لقصر الحاكم . كان الناس مذهولون من كون عربة العجم تسير في طرقاتها ، وعندما وصلت العربة للقصر هرول جنود جومنداس لدامس قائلين:

-أنقذنا يا سيدي ، لقد أتى حاكم بلاد العجم فهو يعرف بأننا جنود الحاكم السابق ونخشى أن يأمر بقتلنا.

ابتسم دامس قائلاً :

-من لحظة استيلامي الحكم أصبحتم جنودي ولن يجرؤ أحد على الاقتراب منكم.

ثم خرج لاستقباله على باب القصر ، فأقبل آندور ورمقه بضيق:

-هذا التصرف غير مقبول من حاكم جومنداس ، لماذا لم يخرج لاستقبالي وأرسلكَ أنت ، ألستَ المترجم نفسه؟!

ابتسم دامس وقال :

-نعم يا سيدي أنا المترجم دامس حاكم مدينة جومنداس ، ابن حاكم مدينة موراشد.

ثم دعاه للدخول وطوال مسيرهما إلى جناح دامس كان آندرو مذهولاً من بساطة ثيابه كونه حاكم . وعندما دخلا؛ أمر دامس رجاله بتحضير أفخم جناح في القصر لمبيته. ثم قال له:

-لقد أنرتَ جومنداس قبل قصري بحضورك .

-كيف احتللتم المدينة دون دمار ؟!

تنهَّد دامس وقال بابتسامة:

-استطعنا احتلال عقل الحاكم وتخويفه ، وكسبنا الحرب بدون خسائر لكلا المدينتين.

رمقه آندرو قائلاً:

-فكرة من هذه؟!

-فكرتي .

صمت آندرو للحظات من هول صدمته ، بينما كان يحملق بدامس متعجباً لذكائه وتخطيطه العسكري ولا يزال شاباً في مقتبل العمر ، ثم قال :

-لقد أتيتُ لأطلب منك أمراً.

فقطع دامس كلامه قائلاً:

-أنتَ في ضيافتنا ليومين ، بعدها تستطيع قول طلبك .

اتَّسَعَت حدقتا عينيه من الدهشة ، فلم يسبق أنْ تكلم أحد معه بتلك الثقة وكأنه حاكم العالم وليس مدينة ضعيفة كجومنداس.

وفي صباح اليوم التالي قال آندرو لدامس :

-يسرني أن ترافقني للسير في طرقات المدينة، وتعريفي بصناعاتها ومنتجاتها .

رحَّب دامس بذلك وأمضيا اليوم الأول في طرقاتها، يطلعه على الصناعات المشهورة بها ، ولأنها لم تكن بجودة صناعة مدينة موراشد، فقال دامس له في المساء:

-لقد لمستُ إعجابكَ بصناعات مدينة جومنداس ، لكني أودُّ إخباركَ أنها صناعات على الرغم من إتقانها ، ليست بجودة صناعات موراشد فهي تضاهيها بأضعاف ، جودة وإتقان ، وإنْ أردت الذهاب لموراشد يُسعدني الذهاب معكَ في صباح الغد لزيارة أبي ، فينبغي علينا أن نزور الحاكم أولاً من باب الاحترام ، ثم الاطلاع على صناعات المدينة ليوم كامل والعودة في فجر اليوم الذي يليه لجومنداس .

لم يترك دامس لآندرو مجالاً للرفض ، فقد كانت صياغة دامس للكلام كفيلة بجعل لسان آندرو يتوقف عن الحركة للحظات ، فكونه الحاكم الأقوى عسكرياً ، يُفتَرَض أن يأتي الحاكم الأضعف لزيارته ، ولولا أنَّ له غاية عند حاكم جومنداس لم يكن سيأتي إليه .

كانت رغبة آندرو بالتعرف على صناعات جومنداس وموراشد ، سبباً لجعل طلبه مكشوفاً لدامس من قبل أن يقوله، مما جعله يجهّز برأسه المقابل الذي سيأخذه من آندرو لتنفيذ طلبه . كانت سعادة حاكم موراشد لا توصف ، فقد كانت زيارة حاكم بلاد العجم الأولى لمدينته منذ أن استلم الحكم ، وبعد أن أخبره دامس بسبب زيارة آندرو ، قام بإطلاعه على صناعات مدينة موراشد ، فذُهِلَ آندرو من الفارق الواضح في الجودة ، فقال له :

-لقد رأيتُ بعينيّ سبب تسمية موراشد بالمدينة التجارية.

فقال له دامس :

-في القريب العاجل ستصبح جومنداس المدينة التجارية الثانية، لأني سأُرسِلُ معلمين مختصين في كل مهنة من موراشد إلى جومنداس لتعليم ممتهنيها الحرفة بقواعدها الصحيحة ، وأجعلها مع الوقت تنافس موراشد.

كادت أن تتمزق جفون آندرو من صراحته ، وفي الوقت ذاته أُعجِبَ بذكائه واندفاعه للتطور . وقَبلَ عودتهما همس دامس لأبيه :

-مع الوقت ستصبح موراشد وجومنداس مدينة واحدة تضاهي بلاد العجم عسكرياً واقتصادياً.

فقال في قرارة نفسه:

-حينها سأتنازل لك عن السلطة يا بني ، فلا يستحق أن يجلس على هذا العرش ، إلا الحاكم الذي يأخذ بلاده نحو التقدم والازدهار في جميع المجالات.

…..يتبع

الجزء السادس عشر دامس

ما إن عادا إلى جومنداس حتى قال آندرو مُمَهِدَّاً لطلبه:

-لقد اهتمَّ أجدادي منذ قديم الزمان بالصناعات العسكرية ، لنتفوّق في المجال الحربي ونجعل العرب يهابوننا ، لكنهم أهملوا صناعات الخشب والزجاج والحديد والنسيج ، ولأنهم شجعوا فقط على الزراعة والصناعة الحربية، أصبح صميم تركيز الأهالي في بلادنا على هذَين المجالَين، وأصبحوا يرفضون حتى فكرة تعلم أي صناعة أخرى ، لكن عندما أرسَلْتَ لي الآلات كغنيمة حرب ، خطر لي بأن أطلب منك إرسال معلميّ تلك الصناعات ، لتعليمها لأهالي بلادنا ، لعلهم يتشجّعوا إنْ رأوا العرب معلميهم .

فقال دامس :

-على الرحب و السعة ، سأرسل معلمين مختصين من كل مهنة لتعليم أهالي بلادكم تلك المهن بقواعدها الصحيحة ، حتى قبل أن أرسلهم لجومنداس ، ومع الوقت لن تحتاجوا للدول العربية لاستيراد تلك المواد ، لكن لديّ طلب بالمقابل .

كادت أن تتمزق جفون آندرو وهو يقول:

-كل طلباتك مُجابة .

– بذات الوقت الذي سأرسل به معلميّ كل الحرف إلى بلاد العجم ، أريدك أن ترسل أمهر صانعي المناجيق والمعدات الحربية ليتشاوروا مع صانعي موراشد لتطوير تلك الصناعات ، كون معداتكم الحربية متطورة عن موراشد ، ثم عقد اتفاقية بجعل موراشد هي صاحبة تلك المعدات المتطورة ، ويُحظَر على بلاد العجم صناعة معدات مثيلة لها.

ثم صمت لبرهة وتابع :

لكن يجب أنْ لا يَغِب عن ذهنك أنَّ تعليم أهالي بلادكم سيأخذ وقتاً ليس بالقصير ومن المؤكد أنَّ المدة ستطول لبعد عقد الاتفاقية بيننا ، كَونَ الأهالي يجهلون كلياً تلك الصناعات ، فتعليم أي شخص صناعات معقدة عندما يصل لمرحلة البلوغ ، سيأخذ وقتاً لجعله يستطيع استيعابها بالشكل الصحيح .

حملَقَ آندرو بدامس لدقائق ثم قال له بابتسامة صفراء محاولاً إيهامه أنه سيفكر بكلامه:

-لو لا الاتفاقية التي تحدَّثْت عنها ، كنتُ سأوافق على الفور لكن في فجر الغد قُبَيلَ عودتي لبلادي سأعلمك بقراراي .

ثم دخل إلى جناحه وهو يقول في قرارة نفسه:

-من الواضح أني أخطأتُ عندما وصفته بالذكي ، كونه يريد احتكار المعدات المتطورة لموراشد وكأنَّ صانعي بلادنا بعد أن يتشاوروا مع صانعي موراشد ، لن يستطيعوا صناعة مثيلاتها ، وبعد ذلك أُمَزِّق الاتفاقية وأغزو الدول العربية ، خاصة أنَّ تعلم أهالي بلادنا لتلك الصناعات ، سيلغي القانون الذي يمنع احتلالها .ثم صمت لبرهة وقال :

-لو لا مخافتي كأجدادي بِعَوزِ بلادنا لتلك المواد عند احتلال الدول العربية ، كنت احتتلتُ موراشد وجومنداس منذ أن استلمت الحكم .

في أثناء ذلك كان دامس جالسٌ على عرشه مبتسماً ، لأنه استطاع إيقاع آندرو في الفخ ، فقد كان على يقين أنَّ آندرو قد وافق على الاتفاقية من الأساس ، وهو يفكر أنَّ باستطاعته بعد تعلم أهالي بلاده الحرف أن يمزق الاتفاقية، ومن طمعه وشروره سينسى أنّهم قد تعلموا فقط العمل على الآلات لا صناعتها ، والآلات التي أرسلها من جومنداس قديمة بعض الشيء لن تحتمل وقتاً طويلاً وستحتاج إصلاحات وربما صناعة معدّات جديدة، وأدمغة الأهالي لا تعمل إلا في مجال واحد ، غير أنَّ آندرو يعتقد أنه سيأمر صانعي المعدات الحربية ببناء معدات مثيلة لموراشد ، لكنه لا يعلم أنَّ دامس يريد استدعائهم وجمعهم مع صانعي موراشد لكي يفهموا منهم طريقة صناعة معدّاتهم المتطورة ويُعلموه بها ثم يتشاور معهم على طريقة لجعلها متطورة عن بلاد العجم وبعد أن يتم بناء تلك المعدات ، يتم إخبار آندرو أنَّ صانعي بلاده مع صانعي موراشد بعد تفكير طويل وتشاور لم يتوصلوا لشيء.

في فجر اليوم التالي قال آندرو لدامس :

-مع أني مُكرَه على هذه الاتفاقية ، لكن لجعل بلادي متطورة في كافة المجالات ، سأتنازل وأوافق عليها.

ثم صافح دامس الذي رافقه للخروج إلى عربته وهو يقول في قرارة نفسه:

-من المؤكد أنّك ستحتاج لعلاج نفسي بعد أن تعي أنك وقعت في الفخ.

وبعد أنْ ودّعه تذكر خوف جندي جومنداس من رؤية حاكم بلاد العجم ، فأمر بجمع الجنود في ساحة القصر وقال لهم بأعلى صوته :

-يا جنود جومنداس إن استمرَّيتم بالخوف ممن هم أقوى منكم ، حتى الحيوانات ستشعر بجبنكم . يا جنودي الأبطال حتى لو كان خوف العالم بداخلكم تحدّوه واجعلوا من أمامكم يشعروا أنكم لا تهابون الموت ، فهذا سيجعل حتى من هم أقوى منكم يهابونكم ويحتاروا بأمركم . يا جنودي الأبطال إنَّ الإنسان مرآة لما بداخله ، إنْ قال أنا شجاع ولا أهاب شيء ، سيكون كذلك حقاً ، وإن قال أنا أخاف من الموت سيموت مئة ألف مرّة قبل أن يموت فعليَّاً . قولوا نحن ناجحون حتى يأتيكم النجاح زاحفاً إليكم ، ولا تقولوا نحن فاشلون حتى لا يُركِعَكم الفشل ثم يَشُّل خطواتكم .

حينها شعر الجنود بقوة لا مثيل لها وهتفوا مراراً :

-يحيا الحاكم دامس ، يحيا يحيا يحيا .

….يتبع

الجزء الأخير دامس

طلب دامس من أبيه أنْ يُرسل لجومنداس كل معلمي الحِرَف وصانعي المعدات الحربية ، ثم أرسل معلمي الحرف لبلاد العجم وطلب منهم تعليم الأهالي بغضون ستة أشهر ،وأكَّدَ عليهم أنْ يقوموا بتخريب الآلات بطريقة لا يلاحظها أحد، بعد أن ينتهوا من تعليمهم، ثم يأتوا لجومنداس ليخبروه بإنتهاء مهمتهم قبل الذهاب لموراشد.

وعندما وصلوا لبلاد العجم ، قام آندرو بتنبيه صانعي المعدات الحربية أن يكونوا في أقصى انتباههم مع صانعي موراشد لأخذ طريقة تطوير المعدات منهم كونه على علم بأنَّ أدمغتهم جامدة ، ثم أرسلهم لجومنداس .

وفي ذلك الوقت كان دامس قد طلب من صانعي المعدات الحربية التركيز مع صانعي بلاد العجم لكي يعرفوا منهم طريقة صناعة معداتهم ويوهموهم أنهم يفكرون ليلاً ونهار لتطوير تلك المعدات ، وأن يقترحوا عليهم رسم معداتهم لتجعلهم يفكروا بطريقة أوضح .

قام العجم برسم مخططات صناعة معداتهم ، وأخبروهم أنهم يفكرون معهم بطريقة لتطوير المعدات ، لكنهم لم يأخذوا ثانية من وقتهم بالتفكير ، لأنَّ معداتهم كانت بنظرهم متطورة لا تحتاج لشيء، كونها جعلَتهم الدولة الأعظم عسكرياً .

بعد أن قامَ صانعو موراشد بإطلاع دامس على المخططات أمضى شهراً وهو يفكر بطريقة لتطويرها إلى أن وجدها، فجمع صانعي موراشد وقال لهم :

-كما تلاحظون معي أنَّ مناجيق بلاد العجم متطورة عنا بأنها تستخدم الأثقال الموازنة لإطلاق القذائف أما نحن فنستخدم إلى ما يقارب مئتي رجل لإرسال القذائف إلى مسافة مئة متر أو أكثر ، ولكي نستطيع تطوير المنجنيق أكثر من العجم

،علينا أن نُزيل حبال السحب ووضع حوض تحت عارضة المنجنيق للإمساك بالقذيفة ، أما بالنسبة لأشكال خناجرهم ولأنها تختلف عن خناجرنا فقد أوحت لي بفكرة أن نجعلها أطول كي يستطيع جندينا إصابة عدونا من مسافة أبعد مما لو كان ممسكاً الخنجر ، ولنطلق عليه مسمى السيف للتمييز .

ساد الصمت لبرهة وجميعهم بحالة ذهول ، فقال دامس :

-هل تقدروا على صناعة ما قلت بغضون خمسة أشهر ؟!

-بالطبع سيدي .

– ممتاز ، والآن ستخبروا صانعي العجم أنكم لم تتوصلوا لشيء وأنني أمرتكم بالعودة لموراشد في الغد بعد أن نعتُّكم بالفاشلين ، وأنَّ بإمكانهم العودة لبلادهم .

نفذَّ صانعو المعدات الحربية ما قاله دامس ، وعادوا إلى موراشد لبدء التصنيع .شعر آندرو بالضيق بعدما أخبره صانعو بلاده بما قاله صانعو موراشد، لكن سرعان ما قال في نفسه:

-لا بأس حتى لو لم يتوصّلوا لشيء ، يبقى المهم أننا متقدمون عنهم حربياً ، وبعد الانتهاء من تعليم رجالنا لتلك الحرف المهمة ، سأحتل جومنداس وموراشد.

وبعد خمسة أشهر وقبل عودة معلمو المهن بأسبوع ، أرسل حاكم موراشد لدامس مرسالاً كتب بها:

-لقد تمت صناعة خمسون منجنيقاً متطوراً ، ومئة سيف ، وبعد أن أخبرني صانعو موراشد بما أنجزت قررتُ أمراً وأريد منك القدوم إلى موراشد في الغد لأخبرك به .

ذهب دامس في الوقت المحدد وهو يتسائل عما يريده ، وما إن وصل حتى رأى حشود غفيرة من الناس في ساحة المدينة في ذهول تام وعندما رأوه هتفوا جميعهم :

– يحيا الحاكم الجديد .

فأسرع دامس إلى القصر ليفهم سبب ما سمع فقال له حاكم موراشد:

-لقد أعلنتُ منذ قليل أني قد تنازلتُ لك عن حكم موراشد وجومنداس ، فأنت أحقُّ بالحكم يا بني ، وممنوع الإعتراض فأنا أريد أن أحيا ما تبقى من حياتي براحة بال في جناحك الذي كنت تعالج به جروح أرواح الأهالي ، وتركتُ هذا العرش بجناح الحاكم لك.

احتضنه دامس وأمضى اليوم معه ثم استأذنه للرجوع لجومنداس وأَخْذ نصف المعدات الحربية التي تمَّ تصنيعها . وبعد أسبوع عاد معلمو الحرف بعد أن قاموا بتخريب الآلات ، وما إن وصلوا حتى أمرهم دامس ببدء تعليم أهالي جومنداس بأسرع وقت.

في تلك الأثناء أمر آندرو رجاله الذين تعلموا المهن بصناعة نماذج لما تعلموه فقالوا له :

-إنَّ الآلات جميعها قد تعطَّلت .

استشاظ غضباً وهو يقول لهم :

-أيعقل أن معلمو موراشد هم من قاموا بتخريبها؟!

-لا يعقل يا سيدي فهي بالأصل قديمة بعض الشيء.

وبعد تفكير بضعة أيام ، أرسل آندرو مرسالاً لدامس كتبَ به:

-أريدُ منك إرسال آلات عوضاً عن الآلات القديمة ، مع صانعي تلك الآلات لتعليم رجال بلادنا كيفية صناعتها وإصلاحها إنْ تعطَّلَت .

فقام دامس بالرد عليه بمرسال قال به:

-تريدُ مني أن أُرسِل لك الآلات وصانعيها ، لكي يُعلِّموا أهالي بلادك ثم تقتلهم بعد ذلك ، و تغزو جومنداس وموراشد ، لكن قبل أن تتصرف ببلاهة أودُّ إخبارك أنَّ صانعو موراشد قد طوروا المعدات الحربية بطريقة أستطيع بها إبادة بلادكم ومسحها من على وجه البسيطة ، وللتنويه: أنا الذي أمرتُ معلمي موراشد تخريبَ الآلات قبل عودتهم.

كاد قلب آندرو أن يتوقف من الغيظ ، وشعر بذل أنساه تكبره الذي عاشه طيلة حياته ، وأكمل بقية حياته بخوف أن يتعرض لهجوم من دامس بأي لحظة.

بعد أن تعلم أهالي جومنداس المهن الحرفية بقواعدها الصحيحة من معلمي موراشد ، أمر دامس بتعليمهم صناعة المعدات الحربية ، ثم صناعة آلاتها ، ولم ينسَ أن يأمر بطباعة نسخ من كتابَيه اللذَين قام بتأليفهما بموراشد، وتوزيعها لكل أهالي جومنداس ، وبعدَ أن لمَس حب أهالي المدينَتَين لبعضهما ، أعلنَ أنَّ جومنداس وموراشد مدينة واحدة تحمل اسم راشنداس .

# انتهت